بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ}.
{إذا الشمس كورت} هذا يكون يوم القيامة، والتكوير: جمع الشيء بعضه إلى بعض ولفّه كما تكوّر العمامة على الرأس، والشمس كتلة عظيمة كبيرة واسعة في يوم القيامة يكورها الله عز وجل فيلفها جميعاً ويطوي بعضها على بعض فيذهب نورها (46)، ويلقيها عز وجل في النار عز وجل إغاظة للذين يعبدونها من دون الله، قال الله تبارك وتعالى : {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} أي تحصبون في جهنم {أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98]. ويستثني من ذلك من عُبد من دون الله من أولياء الله فإنه لا يلقى في النار كما قال الله تعالى بعد هذه الآية {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} [الأنبياء: 101، 102].
{وإذا النجوم انكدرت} انكدرت يعني تساقطت كما تفسره الآية الثانية. {وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار: 2]. فالنجوم يوم القيامة تتناثر وتزول عن أماكنها
{وإذا الجبال سُيرت} هذه الجبال العظيمة الصلبة العالية الرفيعة تكون هباءً يوم القيامة وتسيّر كما قال الله تعالى: {وسيّرت الجبال فكانت سراباً} [النبأ: 20].
{وإذا العشار عُطلت} العشار جمع عشراء، وهي الناقة الحامل التي تم لحملها عشرة أشهر وهي من أنفس الأموال عند العرب، وتجد صاحبها يرقبها ويلاحظها، ويعتني بها ويأوي إليها ويحف بها في الدنيا، لكن في الآخرة تعطل ولا يلتفت إليها؛ لأن الإنسان في شأن عظيم مزعج ينسيه كل شيء كما قال الله تبارك وتعالى: {يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 34 ـ 37].
{وإذا الوحوش حشرت} الوحوش جمع وحش، والمراد بها جميع الدواب، لقول الله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أُمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} [الأنعام: 38]. فستحشر الدواب يوم القيامة ويشاهدها الناس ويُقتص لبعضها من بعض، حتى إنه يقتص للبهيمة الجلحاء التي ليس لها قرن من البهيمة القرناء (47)، فإذا اقتص من بعض هذه الوحوش لبعض أمرها الله تعالى فكانت تراباً، وإنما يفعل ذلك سبحانه وتعالى لإظهار عدله بين خلقه
{وإذا البحار سُجّرت} البحار جمع بحر وجمعت لعظمتها وكثرتها، فإنها تمثل ثلاثة أرباع الأرض تقريباً أو أكثر. هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تُسجر، أي توقد ناراً، تشتعل ناراً عظيمة وحينئذ تيبس الأرض ولا يبق فيها ماء؛ لأن بحارها المياه العظيمة تسجّر حتى تكون ناراً
{وإذا النفوس زوجت} النفوس جمع نفس، والمراد بها الإنسان كله، فتزوّج النفوس يعني يُضم كل صنف إلى صنفه؛ لأن الزوج يراد به الصنف كما قال الله تعالى: {وكنتم أزواجاً ثلاثة} [الواقعة: 7]. أي أصنافاً ثلاثة وقال تعالى: {وآخر من شكله أزواج} [ص: 58]. أي أصناف، وقال تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} [الصافات: 22]. أي أصنافهم وأشكالهم فيوم القيامة يضم كل شكل إلى مثله، أهل الخير إلى أهل الخير، وأهل الشر إلى أهل الشر، وهذه الأمة يضم بعضها إلى بعض {وترى كل أمة جاثية} لوحدها {كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون} [الجاثية 28]. إذاً {وإذا النفوس زوجت} يعني شكّلت وضُم بعضها إلى بعض كل صنف إلى صنفه، كل أمة إلى أمتها
{وإذا المؤؤدة سُئلت بأي ذنب قُتلت} الموؤدة هي الأنثى تدفن حية، وذلك أنه في الجاهلية لجهلهم وسوء ظنهم بالله، وعدم تحملهم يعيّر بعضهم بعضاً إذا أتته الأنثى، فإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، ممتلىء هًّما وغمًّا {يتوارى من القوم} يعني يختفي منهم {من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب} [النحل 59]. يعني إذا قيل لأحدهم نبشرك أن الله جاء لك بأنثى ـ ببنت ـ اغتم واهتم، وامتلأ من الغم والهم، وصار يفكر هل يبقي هذه الأنثى على هون وذل؟ أو يدسها في التراب ويستريح منها؟ فكان بعضهم هكذا، وبعضهم هكذا. فمنهم من يدفن البنت وهي حية، إما قبل أن تميز أو بعد أن تميز، حتى إن بعضهم كان يحفر الحفرة لبنته فإذا أصاب لحيته شيء من التراب نفضتـه عن لحيته وهو يحفر لها ليدفنها ولا يكون في قلبه لها رحمة، وهذا يدلك على أن الجاهلية أمرها سفال، فإن الوحوش تحنو على أولادها وهي وحوش، وهؤلاء لا يحنون على أولادهم، يقول عز وجل: {وإذا المؤودة سئلت} تسأل يوم القيامة {بأي ذنب قتلت} هل أذنبت ؟ فإذا قال قائل: كيف تُسأل وهي المظلومة... هي المدفونة، ثم هي قد تدفن وهي لا تميز، ولم يجر عليها قلم التكليف، فكيف تسأل؟ قيل: إنها تُسأل توبيخاً للذي وأدها، لأنها تُسأل أمامه فيقال: بأي ذنب قُتِلْتِ أو قُتِلَتْ؟ نظير ذلك لو أن شخصاً اعتدى على آخر في الدنيا فأتوا إلى السلطان إلى الأمير فقال للمظلوم: بأي ذنب ضربك هذا الرجل؟ وهو يعرف أنه معتدىً عليه ليس له ذنب. لكن من أجل التوبيخ للظالم، فالموؤدة تُسأل بأي ذنب قتلت توبيخاً لظالمها وقاتلها ودافنها نسأل الله العافية.
{وإذا الصحف نشرت} الصحف جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيها الأعمال. واعلم أيها الإنسان أن كل عمل تعمله من قول أو فعل فإنه يكتب ويسجل بصحائف على يد أمناء كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون، يسجل كل شيء تعمله حتى توافى يوم القيامة فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} يعني عمله في عنقه {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً} مفتوحاً {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء13- 14]، كلامنا الان ونحن نتكلم يكتب، كلام بعضكم مع بعض يكتب، كل كلام يكتب {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18]. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»(48)، وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»(49)، لأن كل شيء سيكتب عليه، ومن كثُر كلامُه كثُر سقطه، يعني الذي يُكثر الكلام يكثر منه السقط والزلات، فاحفظ لسانك فإن الصحف سوف يكتب فيها كل ما تقول وسوف تنشر لك يوم القيامة.
{وإذا السماء كشطت} السماء فوقنا الان سقف محفوظ قوي شديد. قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات: 47]. أي بقوة. وقال تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} [النبأ: 12]. أي قوية. وفي يوم القيامة تكشط يعني تُزال عن مكانها كما يكشط الجلد عند سلخ البعير عن اللحم يكشطها الله عز وجل ثم يطويها جل وعلا بيمينه كما قال تعالى: {والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67]. { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} [الأنبياء: 104]. يعني كما يطوي السجل الكتب، يعني الكاتب إذا فرغ من كتابته طوى الورقة حفظاً لها عن التمزق وعن المحي، فالسماء تكشط يوم القيامة ويبقى الأمر فضاء إلا أن الله تعالى يقول: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17]. يكون بدل السماء التي فوقنا الان يكون الذي فوقنا هو العرش؛ لأن السماء تطوى بيمين الله عز وجل يطويها بيمينه ويهزها وكذلك يقبض الأرض(50) ويقول: «أنا الملك، أين ملوك الأرض»،
{وإذا الجحيم سعرت} الجحيم هي النار، وسميت بذلك لبعد قعرها وظلمة مرءاها. تُسعر أي توقد. وما وقودها الذي توقد به؟ وقودها الذي توقد به قال الله عنه: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} [التحريم: 6]. بدل ما توقد بالحطب يكون الوقود الناس يعني الكفار. والحجارة حجارة من نارٍ عظيمة شديدة الاشتعال شديدة الحرارة، هذا تسعير جهنم
{وإذا الجنة } الجنة دار المتقين فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {أزلفت} يعني قُرِّبت وزُيِّنت للمؤمنين، وانظر الفرق بين هذا وذاك. دار الكفار تسعّر، توقد، ودار المؤمنين تزيّن وتقرّب {وإذا الجنة أزلفت} كل هذا يكون يوم القيامة،
إذا قرأنا هذه الايات: {إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت. وإذا الجبال سيرت. وإذا العشار عطلت. وإذا الوحوش حشرت. وإذا البحار سجرت. وإذا النفوس زوجت. وإذا الموؤدة سئلت. بأي ذنب قتلت. وإذا الصحف نشرت. وإذا الشماء كشطت. وإذا الجحيم سعرت. وإذا الجنة أزلفت} هذه اثنتا عشرة جملة إلى الان لم يأت بالجواب. لأن كلها في ضمن الشرط {إذا الشمس كورت}
فالجواب لم يأت بعد ماذا يكون إذا كانت هذه الأشياء؟
قال الله تعالى: {علمت نفس ما أحضرت} أي ما قدمته من خير وشر {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء} [آل عمران: 30]. يعني يكون محضراً أيضاً {تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 30]. فتعلم في ذلك اليوم كل نفس ما أحضرت من خير أو شر، في الدنيا نعلم ما نعمل من خير وشر لكن سرعان ما ننسى. نسينا الشيء الكثير لا من الطاعات ولا من المعاصي، ولكن هذا لن يذهب سدى كما نسيناه؟ بل والله هو باق، فإذا كان يوم القيامة أحضرته أنت بإقرارك على نفسك بأنك عملته، ولهذا قال تعالى: {علمت نفس ما أحضرت}
فينبغي بل يجب على الإنسان أن يتأمل في هذه الايات العظيمة وأن يتعظ بما فيها من المواعظ، وأن يؤمن بها كأنه يراها رأي عين؛ لأن ما أخبر الله به وعلمنا مدلوله فإنه أشد يقيناً عندنا مما شاهدناه بأعيننا أو سمعناه بأذاننا؛ لأن خبر الله لا يكذب، صدق، لكن ما نراه أو نسمعه كثيراً ما يقع فيه الوهم. قد ترى الشيء البعيد شبحاً تعينه في تصورك وهو خلاف الواقع ، وقد تسمع الصوت فتظنه شيئاً معيناً في ذهنك وهو خلاف الواقع ، فالوهم يرد على الحواس ، لكن خبر الله عز وجل إذا علم مدلوله لا يمكن أبداً أن يرد عليه شيء من الوهم ؛ لنه خبر صدق ، فهذه الأمور التي ذكر الله في هذ الآيات أمور حقيقية يجب أت تؤمن بها كأنك تراها رأي العين ثم بعد الإيمان بها يجب أن تعمل بمقتضي ما تدل عليه من الاتعاظ والانزجار ، والقيام بالواجب ، وترك المنهيات حتى تكون من أهل القرآن الذين يتلونه حق تلاوته .
العلامة محمد بن عثيمين يرحمه الله
ولتفسير السورة بقية
المفضلات