اخترت اليكم تلك الرائعة الادبية
على مقربة من نهر اليرموك كنت أسير ، وقد اقتربت الشمس من المغيب ، فإذا بي ألحظ أناسا كثيرين جالسين ، يفترشون التراب على مأدبة طعام ، أجسامهم ليست بالصغيرة ولا بالكبيرة ، وملابسهم من أثر الغبار لا تعلم أقديمة أم جديدة ، يرتدي كل منهم عمامة مهيبة ، تستر الوجه فلا يبدو منه إلا القليل مع لحية ممشطة جميلة .
فلما وقفت عليهم ألقيت السلام فردوا ، ثم دعوني لمشاركتهم الطعام فجلست ، فوضع الخادم أمامي حظي من الثريد واللحوم فأكلت ، ثم التفت إليّ رجل منهم ، وقال : ادن !! ممن الرجل ؟؟ فقد منعي من سؤالك أولا خشية أن تنشعل بالإجابة عن الطعام ، فلما اقتربت منه وجدت رجلا مهيبا عمامته محشوة بالسهام التي يبدو أنها وجهت إليه أثناء القتال في الصباح فلم يبال بها ، ولم ينشغل بخلعها ، ثم تدلى الرداء عن كتفه فجأة فوجدت جسدا لو ضربت بالسيف عليه لارتد السيف إليك كالكرة التي تقذف بالحائط الأسمنتي فتعود من حيث قذفت ، جسد تتضاءل أمامه أجسام الوحوش التي نراها في المصارعات الحرة ..
فارتعدت مفاصلي وكدت أن أتقيأ ما أكلت من الطعام ، بعد أن زاغت عيني لرؤيته ، لولا أن رأيت رجلا بجواري يمسح على كتفي برفق ويقول : لا تخف !! إنه الفارس خالد بن الوليد ، وما فزّع مستأمنا قط ، وإنما سألك ليستفهم ، وقد رأى هيئتك تخالف هيئات من معه ، فقلت : أنا أيها الأمير ... ومن ... ، فقال : مرحى.
فلما آنست منه الأمن بدأت أستفسر منه عن سر عظمته وقوته وشجاعته والمكانة التي نالها في قلوب الناس عبر التاريخ ، فاستأذن لحظات خلا فيه ببعض قواته ، وأمرهم للخروج للمهمة المكلفين بها ، ثم عاد إلي ، واستفاض في حديثه ، وبين أن سبب عظمته يكمن في أنه لم يقصد بجهاده إلا القضاء على الفئات الطاغية ، واستعادة الحرية للمستعبدين في الأرض ، ونشر العدل في ربوع المعمورة ، وجعل الناس يعيشون في أمن وسلام ، فقلت : والإسلام ؟ فقال : وهل جاء نبي الإسلام إلا لذلك ، نحن نقاتل فقط من يحول بين الناس وبين التعرف على الإسلام واعتناقه ، قلت : كيف ؟ قال : نحن لا نكره الناس على الإسلام ؛ لأن من أسلم فلنفسه ، ومن عمي فعليها ، مهمتنا فقط أن نجعل الإسلام واضحا ومعروضا على الناس كبضاعة السوق ، والناس بعد ذلك في الخيار ، من شاء قبل ، ومن شاء أبى .
فقلت : إن الناس في عصرنا يقولون : إن هذا تدخل في شئون الغير ، فأجابني أي غير وأنا أقول لك : إننا لا نقاتل إلا من يريد أن يقف في طريق دعوتنا ، فأجبته : إذن تجلسون في بيوتكم وتنظرون من يجيئكم فتعلمونه الدين ، دون أن تخرجوا للجهاد ، فأجابني : وهل جلس أصحاب الكفر في بيوتهم وانتظروا من يجيئهم فيدعونه للكفر ؟ إنهم يقطعون آلاف الأميال لإكراه الناس على الكفر ..
فقلت : إنهم يقولون : إنهم جاءوا لمحاربة الأشرار ، فقال : وهل هنالك شر منهم ؟؟ فلججت معه في الحديث وقلت : إن قتالهم لمحاربة الإرهاب ، وأما أنتم فجهادكم إرهاب ، فاحمر وجهه وعلاه الغضب ، فقلت في وجل : لست القائل يا خالد ، ما أنا الذي يقول ذلك ، إنهم سكان الأرض في القرن الواحد والعشرين ، فقال في سخرية : سكان الأرض في القرن الواحد والعشرين الذين يخونون الأمين ، ويأمنون الخائن ، يصدقون الكاذب ، ويكذبون الصادق ، يحقرون العظيم ، ويعظمون الحقير ، يكفرون المؤمن ، ويأسملون الكافر .. قم فاغرب عن وجهي ! فلو أذن الله لي بالعودة إلى الدنيا ما أبقيت فيكم عينا تطرف ، ثم رفع يده فخشيت أن يلطمني بها ،ففررت من أمامه وأنا أردد لست القائل يا خالد ، إنهم سكان القرن الواحد والعشرين .
المفضلات