مثلما تعود الأنهار إلى البحر ويعود النور إلى السراج ويعود الظلام الدامس إلى الفضاء الواسع كذلك يعود الإنسان إلى أصله ونسبه ومهما هاجر ومهما اغترب يبقى الحنين يعود به إلى مسقط رأسه وحيث قضى طفولته في ليلة من الليالي أصابني أرق شديد وهجر النوم أجفاني ولم أجد للنوم سبيلا ...كان السهاد يحاصرني من كل مكان ..قمت من مكاني وبدأت أطالع كتابا ولكن أصابني الملل ...فتحت شرفة المنزل ضوء القمر ساطع ولكن أضواء المدينة تذهب عنه بهاءه ورونقه ...لا جديد أغلقت الشرفة..ماذا أفعل؟ فقد فارق النوم أحداقي ..نظرت إلى الساعة ..إنها تشير إلى منتصف الليل...وأخيرا قررت الخروج إلى الشارع لعل النعاس يراود أجفاني وأعود إلى النوم...بدأت أسير في الشارع ...لقد كان فارغا من المارة سوى من بعض السكارى والمتسكعين والمجانين الذين يكسرون هدوء الليل..وكأنه ليس ذلك الشارع المزدحم صباحا ...سرت بعض الخطوات ...ولكن أين أذهب في هذا الوقت المتأخر؟...وفجأة راودتني فكرة كانت تلح على ذهني ...الذهاب إلى القرية ..ولكن هذا جنون ..من سأجد هناك ؟ لا أحد ...فسكان القرية يخلدون إلى النوم في وقت مبكر ...وأخيرا عزمت على الذهاب إلى القرية ..فلم يعد هناك مجال للنوم الذي فارقني...شغلت محرك السيارة نظرت إلى ساعتي إنها الثانية عشر والنصف ليلا....قد يكون مجنونا من يفعل هذا ...ولكن الجنون هو أن تبقى في المدينة بين السكارى والمجانين ترتشف فنجانا من القهوة مع سيجارة المالبورو...انطلقت بسيارتي نحو المخرج الجنوبي المؤدي نحو القرية وبدأت الأضواء تتلاشى شيئا فشيئا حتى خلت الطريق من الأضواء سوى من ضوء القمر أو أضواء السيارة التي كانت تشق طريقها وتكسر هذا الحاجز من الظلام الدامس ..شغلت المذياع فكانت الإذاعة تشدو بصوت أم كلثوم الشجي ..فلم أشعر إلا وأنا عند مدخل القرية ...كان القمر يبسط أضواءه على هذا الظلام ..صمت رهيب وكأن القرية خلت من كل سكانها ...كان محرك السيارة يكسر هذا الصمت ..فأحسست بالخجل ..فأنا أكسر هدوء النائمين وأقض مضاجعهم مثلما قض السهاد مضجعي...إن سكان القرية يحسون بهدوء افتقدته هذه الليلة..فقد بدأت أحسدهم على هذا الهدوء أوقفت سيارتي في مدخل القرية لكي لا أزعج سكانها ..توجهت نحو المزرعة التي قضيت فيها طفولتي مع أصدقائي ...بدأت أسير وأتعثر في هذه المزرعة وأنا أعيد شريط ذكريات الطفولة هنا كنا نتسابق أيام الربيع...وهذا ملعب كرة القدم الصغير ...مازلت أسير تحت أشعة القمر الساطعة حتى وصلت أمام الأشجار الكبيرة التي كنت أدون فيها ذكرياتي مع الأصدقاء فقد كنا ندون ذكرياتنا بنحتها على أغصان الأشجار التي كانت تمثل لنا كراس مدونة كبير..تفقدت أول تلك الأشجار على ضوء مصباح كهربائي كنت أحمله معي ...إنه اسم صديقي فريد وأمامه صورة منحوتة لقلب مغروس بسهم..رسمه للتعبير عن حبه لفاطمة منذ خمسة عشر سنة...ثم تفقدت باقي الرسومات ...وصلت إلى سورة منحوتة على إحدى الأشجار لكتاب كبير ..لقد رسمه أحمد الذي يحب الشعر كثيرا...ثم وصلت إلى سورة منحوتة لامرأة باكية ..لقد رسمها سمير ذلك الفتى العاشق الذي يهوى الرسم ...وقصتها أنه ذات يوم كان يعبر لنا عن مدى حبه لابنة عمته سحر وهيامه في حبها...فقاطعته وقلت أن العاشق يجب أن ينضم بعض الأشعار ..وكان لا يحسن الشعر فبدأ يسجع الكلمات ويربط بينها في قالب فكاهي فضحكنا حتى استلقينا على ظهورنا ..فغضب وقال كل وهوايته وكان يحب الرسم ..فقام ورسم صورة امرأة باكية على هذه الشجرة واتخذها سورة لحبيبته...تركت تلك الرسومات التي كانت مثل الوشم في باطن اليد...نظرت إلى الساعة التي كانت تشير إلى الثالثة صباحا ..تقدمت نحو إحدى الأشجار تفقدتها وإذ بها تحمل اسم صديقي الصغير محسن الذي ذهب بجوار ربه في حادث مرور أليم منذ ثمانية أشهر ...بدأت أتفقده والدموع تسيل من عينيا بغزارة ...جلست تحت تلك الشجرة وبدأت أعيد شريط الذكريات مع صديقي محسن كيف كنا نتسابق ..كان مرحا ..وفجأة رأيت نورا ساطعا يتقدم نحوي ...أردت أن أتراجع لم أستطع التحرك لأن رجلاي لم تحملاني...بدأ ذلك النور يتقدم شيئا فشيئا...وأنا لا أصدق ...من إنه صديقي ...محسن وهو يرتدي لباسا أبيضا يسطع نورا ...لا أصدق ..لقد مات صديقي منذ ثمانية أشهر فكيف عاد...وقف محسن أمامي وهو يخاطبني بصوت طفولي...هل نسيتني ياصديقي؟ هل نسيتني يا رفيق؟ ..فقلت له : محسن أنت ميت فكيف عدت؟ من أين أتيت ؟...فقال من عالم البرزخ عدت لأطمئن عليك ثم أعود ..عليك أن تدعو لي يا رفيق....لقد حان وقت الذهاب الوداع ..الوداع...وبدأ يتراجع...فبدأت أصرخ محسن توقف ...توقف لا تذهب فأنا مشتاق إليك...دعني أراك لحضة فقط أرجوك.. أرجوك...ولكن محسن كان قد اختفى ....فلم أشعر إلا وأنا ملقى تحت الشجرة أصرخ محسن ..محسن ..نهضت من مكاني ..لقد كان ذلك حلما ....لقد رأيت صديقي الفقيد في الحلم ...مسحت دموعي وسرت نحو سيارتي فقد بدأ الفجر في الظهور...كانت الساعة الرابعة ..ولفحات البرد قد بدأت تقرص جسمي ...تركت القرية تغص في نوم عميق وسكون هادئ وتوجهت إلى المنزل في المدينة ..لقد كنت مرهقا ..فأوقفت سيارتي ..صعدت إلى المنزل استلقيت على فراشي بدون أن أغير ملابسي ورحت أغص في نوم عميق...ولم أشعر إلا بهاتفي يرن في الصباح ...إنه صديقي كمال ...لقد تأخرت عن العمل ..ولكني كنت مرهقا ولم أذهب ذلك اليوم إلى العمل بقي ذلك المنضر في تلك الليلة المقمرة في ذاكرتي ..ذكريات الطفولة تحت ضوء القمر ..ما أجملها من ذكريات ..ولكنها ذهبت مع الأيام ..أيام الماضي الجميل .
المفضلات