تابــــــــــــــــع الوعد القرآني في سورة الفتح
تحقق الوعد في عمرة القضاء:
صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، وقدّر تحققها، لكن في الزمان الذي يحدده هو، وبالكيفية التي يريدها هو، وهو الحكيم العليم، سبحانه وتعالى.
ولذلك جاء التأكيد على أداء العمرة في مستقبل قريب، بأفعال وكلمات محددة حاسمة جازمة: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ).
اللام في فعل: (لَتَدْخُلُنَّ) لام القسم للتأكيد، ونون التوكيد الثقيلة فيه للتوكيد، والخطاب للصحابة الذين توجهوا للعمرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة، فحال المشركون بينهم وبين أدائها.
وجملة: (إِن شَاء اللَّهُ) في الآية لتوكيد الخبر، وتحقق الوعد الذي فيه، وهي ليست للاستثناء، بمعنى أن الله شاء دخولكم المسجد الحرام، ولذلك ستدخلونه لا محالة، لأن الله الحكيم شاء ذلك، ولا رادّ لمشيئته.
وذكرت الآية حال المؤمنين عند اعتمارهم: (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ). فهم سيكونون آمنين عند أداء العمرة، لا يخافون أعداءهم المشركين، ومنهم من سيحلق رأسه كاملاً، ومنهم من سيقصّر شعره تقصيراً، ولا شك أن الحلق أفضل من التقصير عند أداء مناسك الحج أو العمرة.
بين الفتخ المبين والفتح القريب:
وختمت الآية بقوله تعالى: (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي: أن الله علم أن الأفضل والأصلح لكم هو عدم أدائكم العمرة هذا العام، وعقد صح الحديبية بينكم وبين المشركين، وهذا الصلح وما يتحقق لكم فيه من مكاسب ونتائج، أولى من أدائكم العمرة، فهذا الصلح فتح من الله فتحه عليكم.
الآية الأولى من السورة اعتبرت صلح الحديبية فتحاً مبيناً: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً). وهذه الآية اعتبرته فتحاً قريباً: (فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).
وقد أشارت إحدى آيات السورة إلى حكمة الله في منع الاشتباك بين المسلمين والمشركين على أرض الحديبية. قال تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) [الفتح: 25].
بين علم الله وعلم البشر:
إن قوله تعالى: (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا) يقرر حقيقة قرآنية، هي: قصور العلم البشري ونقْصُه، فمهما علم الناس فإنهم لا يحيطون علماً بالمسألة المعروضة، ولا يعلمون كل تفصيلاتها وخفاياها، أما المستقبل فإنهم لا يعلمون عنه شيئاً، لأنه غيب اختص الله بعلمه.
وهذا القصور والنقص والجهل في العلم البشري، قد يدفعهم إلى محبة أو تفضيل أو اختيار ما ليس في مصلحتهم، أما رب العالمين فإنه يختار لهم ما فيه مصلحتهم.
ولذلك لما شرع الله القتال وكلّف المسلمين به أشار إلى هذه الحقيقة. قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
وفي حادثة صلح الحديبية، كانت رغبة المسلمين في عدم عقد الصلح مع المشركين، بالشروط التي رأوها مجحفة، وكانوا يرون أداء العمرة هذا العام، أو الاشتباك مع المشركين، ويظنون أن مصلحتهم تتحقق بذلك.
لكن الله العليم الحكيم اختار ما فيه مصلحتهم، وتم عقد الصلح، الذي هو فتح قريب، ولكنهم لا يعلمون ذلك: (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).
الوعد بإظهار الإسلام على الدين كله:
وتقرير هذه الحقيقة فرصة مناسبة لقطع وعد قرآني صادق، بأن المستقبل الباهر للإسلام. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً).
أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودينه الإسلام هو الدين الحق، وهذا معناه أن الهدى مقصور على الإسلام، رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما تعارض معه فهو ضلال، والإسلام نور، وكل ما تعارض معه فهو ظلام.
والإسلام هو الدين الحق، لأن الله حفظه وأنزله، فلا خطأ فيه ولا باطل ولا ضلال، يأخذه المسلم بكامله، وهو واثق مطمئن إلى أنه يأخذ الحق ويلتزم به.. وكل ما تناقض معه من الأديان والأفكار والمذاهب فهو باطل، ولا يقود إلا إلى الضلال والضياع.
وبما أن الهدى في الإسلام وحده، وبما أنه هو الدين الحق، فإن حاجة البشرية إليه ماسّة، لأنها تتخبط في ظلمات الجهل والعمى والضلال، ولذلك قدّر الله أن ينصر هذا الدين، وأن يُظهره على كلما سواه من الأديان والمبادئ: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).
ووجه صلة الوعد الصادق بالحديث عن أجواء صلح الحديبية، هي أن الصلح نفسه خطوة متقدمة على طريق تحقيق هذا الوعد، لأن الصلح فتح قريب، وفتح مبين، ونصر عزيز، كما صرحت بذلك آيات السورة الصريحة، وقد نتج عن هذا الصلح فتح خيبر بعده مباشرة، والقضاء على النفوذ اليهودي في الجزيرة العربية، وهذه خطوة أخرى متقدمة على طريق تحقيق الوعد، وبعد أقل من سنتين من عقد الصلح تم فتح مكة، والقضاء على آخر قلاع الشرك فيها، وهذه خطوة ثالثة كذلك، ولذلك جاء الوعد صريحاً في سياق الحديث عن صلح الحديبية.
وأظهر الله الإسلام على كل الأديان والمذاهب التي كانت في الجزيرة العربية، في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأظهره الله على الأديان والمذاهب في المنطقة كلها، في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وانتشر الإسلام في كل العالم المعروف في ذلك الزمان! واستقر في البلاد الإسلامية من الفلبين إلى المغرب!.
وما زال هذا الوعد القرآني الصادق متحققاً في أيامنا، وما زال الإسلام ظاهراً ظهوراً معنوياً إعلامياً فكرياً على الأديان كلها، في العالم كله، رغم انحسار وجوده المادي، ونفوذه السياسي، وما زال ينتظر الإسلام مستقبل مشرق، فيه ظهور له متكامل.
* * *
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات