سميرة عوض - «للمكان هناك سحر رهيب». هذه العبارة تجسد علاقة الشاعر الزميل موسى حوامدة بالمكان، وتبرز أثر المكان عليه، كما تكشف أسلوب تعامله مع المكان.
وحوامدة الذي عشق المكان الأردني شماله وجنوبه، مدنه وقراه، جذبته أماكنه الفريدة.. منطقة أم قيس، منطقة الحمة، جبل جلعاد، منطقة زي على مشارف السلط حيث يحلم أن يبني بيتا في تلك المنطقة، يستذكر جرش، والحصن والمبدع أديب عباسي.
كما يستذكر مسقط رأسه «السموع» والتي تقع آخر سلسلة جبال الضفة الغربية التي تطل على صحراء النقب، وإن زار البحر الميت يطلق تلك العبارة الشاعرية: (بعينيك تراها وإليها لا تعبر).
مع أماكنه يصطحبنا في رحلة بين الشرق والغرب.
فيها عرفت معنى الوطن
يظل للمكان أثره الخاص في ذاكرة المبدع. ماذا عن مكانك الأول السموع؟. وكيف استلهمتها في كتابك الساخر «حكايات السموع»؟.
«السموع»، كانت هي المكان الأول، وهي تقع آخر سلسلة جبال الضفة الغربية التي تطل على صحراء النقب، يبدو أن الأجداد وفروا الشمال الغني والخضرة، وأقاموا في هذه المنطقة، بسبب توفر المراعي قديما، أو الكهوف أو تعلقهم البدائي بالبداوة، فسكنوا على أطرافها، وكأنهم وضعوا رجلا في الجبال، ورجلا في الصحراء، وعاشوا البداوة والفلاحة معا.
كانت السموع المكان الأول الذي رأيت فيه أول النور، وتنشقت أول ذرة أوكسجين، وتكونت طفولتي فيها، رأيت فيها أجمل أبوين في الدنيا، وعشت أول ما عشت في «عقد» قديم، بين صوامع الحبوب، وعرفت معنى فقدان الرفيق فيها، حين توفي صديق طفولتي «صالح» ودفن في المقبرة القريبة من بيتنا، عرفت فيها معنى ومعنى الهروب من البلدة بسبب العدوان الإسرائيلي ليلا، فعرفت معنى الوطن، والامان وطعم فقدانه وخسارته مبكرا، ورأيت فيها كيف يستشهد شباب الجيش العربي، وكيف تُهدم البيوت والمنازل، رأيت فيها البلدة الجوع والفقر والعوز، ورأيت معنى الكرامة وعزة النفس، والحماس الذي كان يبديه الشباب لمقاومة العدو، وشاهدت الهزيمة وشكل الاحتلال عام 67، وعشت ذل الانكسار، فيها رأيت كل شئ، وأدركت كل شئ مبكرا و(قبل الاوان بكثير).
أما كتابي «حكايات السموع» فقد كان شيئا من الحكايات الساخرة عن تلك البلدة، بعض الحكايات التي عايشتها او سمعتها، والحقيقة أنني لم اكتب كل ما أريده، وربما يظهر ذلك في عمل جديد، كجزء من السيرة، فتلك الأيام تحتاج إلى فيض وتفصيل، وتناولٍ بطريقة مختلفة عما ورد في الكتاب.
حين ضعت في «خزق الفار»
وأنت المولود على مقربة من مدينة الخليل، كيف بدأت علاقتك بها.. وكيف تحضر لديك؟.
أول مرة ضعت فيها، كانت في الخليل؛ في سوق قديم جدا، يسمى «خزق الفار»، كنت في الثالثة أو الرابعة من عمري، وكانت والدتي قد اصطحبتني معها لتبيع (مزودة) بساط بلدي من نسج يديها، ويبدو أنها أثناء عملية البيع تركت يدي، فمشيت هائما في السوق، وحينما سألني أحدهم عن اسمي، أدركت أنني ضعت، وأخذت أبكي؛ حينها شعرت بلوعة الفقدان، ومعنى الضياع، وعرفت وقتها معنى يد الأم، وضرورة عدم الابتعاد عنها.
في كل مرة هناك سفر أول..
السفر الأول إلى أين كان.. ومتى.. وما هي مناسبته؟.
في كل مرة كان هناك سفر أول، فأول مرة سافرت مع والدي، في سيارة شحن من بلدتنا إلى غزة، ذهب لشراء بعض البضائع لبقالته، ورأيت سلال القش، والفخار الغزاوي، ورأيت أكوام السمك والبرتقال والجميز والملفوف والخضار في السوق، وكانت رحلة عجيبة، حدثني فيها والدي، منذ انطلقنا عن أراضينا التي صادرتها إسرائيل، منذ قيامها، وأشار إلى الأماكن بأسمائها، وكان يربط كل شيء بذكرى، أو واقعة معينة.
أما خارج فلسطين فكان سفري الأول طبعا، إلى عمان، حيث وصلت لها عام 1977، للتسجيل في الجامعة الأردنية، وقد استغربت بعد أن عبرنا جسر الملك حسين، أن كل الناس يتكلمون اللغة العربية، حتى الشرطي والعسكري، وحين وصلنا رأس العين وقفت مدهوشا، أتأمل السرفيس والشارع والناس، وأفكر محتارا إلى أين أذهب.
الأماكن الأردنية جذبتني جدا
يحتل المكان الأردني حضوره البارز لديك.. حدثنا عن أماكنك الأردنية الحميمة؟.
الجامعة الأردنية، هي المكان الأحب لدي، عشقت مبنى المكتبة، وعدا عن ترددنا لاستعارة الكتب أو المطالعة فيها، عملت خلال سنواتي الدراسية فيها، كنا نعمل على نظام الساعات، وكان يوفر لي العمل جزءا كبيرا من مصروفي الشخصي، صادقت خلال العمل عددا من موظفي المكتبة، والأساتذة، كنت أرى د.خالد الكركي وكان يتردد كثيرا علينا، والفضل يذكر أن للدكتور هاني العمد دورا كبيرا في توجيهي للعمل في المكتبة، وتكرار زيارتها، تعلمت فيها الكثير الكثير، وعرفت فيها الكثير، فيها تعرفت على بلند الحيدري، قبل أن ألتقيه في مهرجان جرش، وأحبه كثيرا، ويظل يصطحبني معه خلال زياراته لجرش، وهو أول من كتب عن مجموعتي الأولى شغب في مجلة المجلة.
طبعا اعشق وسط البلد، وخاصة سقف السيل، أحببت ساحة المدرج الروماني، وجبل القلعة، وشارع الأمير محمد، وشارع الملك فيصل، وجبل اللويبدة، وجبل عمان، حتى المحطة أحببتها، كنت أذهب إلى منطقة الكراجات، وأستمتع هناك، وأحب مطعم أحد المطاعم، القديمة فيها. كنت أحب مطاعم سينما الحمراء، ساندويتشات طيبة ورخيصة الثمن، وهناك رائحة الفلافل تغريك بالشراء، أما المطاعم فكنا نادرا ما ندخل مطعم القدس أو مطعم القاهرة.
سكنت في صويلح، طيلة دراستي الجامعية، ولي فيها ذكريات جميلة، لكني لم أحبها كثيرا، طبعا أحببت جرش كثيرا، وتعلقت بالحصن لأني كنت أزورها كثيرا، حيث كان لي أصدقاء يسكنون هناك، إضافة إلى بيت خالي، وفيها تعرفت على أديب عباسي، كنت أزوره في بيته، ويقرأ لي من كتبه وأشعاره، وقرأت له قصيدة عن السموع كنت كتبتها أول ما جئت عمان، فعلق قائلا: أنتم الفلسطينيون تحسون دائما بالغربة، فحين كان يذهب ابن الرملة إلى اللد، أو العكس يقسم قائلا وحياة غربتي.
مادبا مكان جميل أيضا، وخاصة جبل نبو، من هناك تطل على فلسطين وتشعر كأنك ملاك يود الطيران، للمكان هناك سحر رهيب، أما البحر الميت، فهو بحر الندم، بحر الحنين والبكاء، بحر الدموع والعذابات، على تلك الجبال الرابضة أمامك والتي لا تستطيع العبور لها، من هنا اقتبست قول التوراة في كتابي: «أسفار موسى العهد الأخير»؛ تلك العبارة الشاعرية: (بعينيك تراها وإليها لا تعبر).
أما الكرك، فقد ذهبت لها، أول ما وصلت عمان، لأني كنت مدهوشا باسمها نتيجة الروايات والقصص التي كنت أسمعها صغيرا، عنها وعن الذاهبين لها، وكتبت مرة مقالة في صوت الشعب كان عنوانها «أرى ضوءا قادما من الكرك».
الكثير من الأماكن في الأردن جذبتني جدا، منطقة أم قيس، منطقة الحمة، جبل جلعاد/ مشارف السلط/ منطقة زي/ وأحلم أن تمكنت أن أبني بيتا لي في تلك المنطقة.
لكل مدينة روح خاصة..
حملك السفر كثير إلى دول عربية وغربية.. كيف تحضر في إبداعك؟. وما الذي يجعل مدينة تتفوق في حضورها على أخرى؟.
مؤخرا أدهشتني مدينة أصفهان، لا ادري لماذا لكني شعرت فيها، أني لست بحاجة إلى مترجم، ولا إلى صديقة أو رفيقة، فقد كانت كأنها امرأة مشتهاة وندية، بل عاشقة حقيقية تفتح ذراعيها للغريب، لوس انجلوس مدينة سحرتني جدا، المحيط الهادي نزع روحي من مكانها، وشعرت بالحسرة لأني أغادرها وقد ورد ذكرها فيما بعد في قصيدتي سلالتي الريح.
لعلي جئت
لكن ما الذي يجعل مدينة تتفوق على أخرى لا أدري، لكل مدينة روح خاصة، قد تتوافق مع روحي، وقد لا تتوافق، فهناك مدن كثيرة زرتها ونفرت منها ولم تؤثر في، أو ربما كانت روحي مغلقة أمامها، مثلا أمستردام لم تجذبني، حتى باريس تعاملت معها بحب ولكن بدون عشق.
بغداد أخذتني بطريقة صوفية
ما هو أكثر الأماكن العربية حضورا لديك؟.
عشقت بغداد، منذ أول مرة وصلتها أخذتني المدينة بطريقة صوفية، وجدت نفسي عراقيا أكثر من النخيل، أحببتها، أحببت العراق، حتى الصحراء التي كنا نجتازها ذاهبين إلى هناك كان لها سحر خاص، أحببت طريقة العمران فيها، الساحات، النهر، الأسواق البنايات المطاعم، السمك المسقوف، الكباب العراقي، والتمن، وحتى شوربة العدس الصباحية، واكلة الباجه، بغداد مدينة أخاذة وهذا ما زاد حزني وألمي بسبب سقوطها واحتلالها، بغداد تقرأ عليك ألف ليلة وليلة، تحس كأنك في عصر هارون الرشيد، وكان أحب مكان لي فيها خان مرجان.
باريس تشبه اللوحة الجميلة
وما أكثر الأماكن الأوروبية حضورا لديك؟.
مدينة لوس انجلوس أدهشتني كثيرا، أعجبتني باريس جدا لما فيها من روح عظيمة، تسكن في كل جزء من المدينة. وترى السحر البشري حاضرا في كل شيء، كثرة المتاحف فيها، تنوع المكتبات والكليات، تنوع البشر وتنوع الأطعمة، ارتباط الأماكن لديهم بالشخصيات الأدبية والفنية، حتى المقبرة هناك، فيها لمسة سحرية جاذبة، كنيسة نوتردام أعجبتني، قد يكون ذلك مرتبطا بفيكتور هيجو لكن باريس كلها مدينة تشبه اللوحة الفنية الجميلة. منطقة قصر فرساي والفضاء الممتد هناك، شارع الشانزيزليزيه، منطقة البيغال بما فيها من تمرد ونشاز ونفور، والعديد من المسارح وصالات الرقص وخاصة مسارح الاستعراض مثل اللبيدو والكريزي هورس.
روحي تكشف وحدها المدن.
لكل منا طقوسه الخاصة في التعرف على المكان.. ماذا عن طقسك؟.
ليس لي طقس محدد لاكتشاف المكان، لكن روحي تعرف وحدها المنطقة المغناطيسية، مثلا لم أحب مدينة طهران كثيرا، وجدت فيها جمودا ونمطية، وسكونا لم يعجبني، بينما أصفهان كانت ساحرة، اللاذقية مثلا لم تبهرني، لكن حلب بأزقتها القديمة ومبانيها التاريخية أدهشتني، واشنطن وجدتها مدينة رسمية، ونيويورك مدينة مفتعلة كثيرا، ومع ذلك سرعة الإيقاع فيها أعجبتني، بينما سكنت روحي في لوس انجلوس ولم أدهش في سانت فيه رغم أهميتها السياحية. إن روحي تكشف وحدها المدن، وتدرك بلا طلب مكان الهبوط والإقلاع.
تلك الرائحة شممت مثلها..
روائح الأماكن.. ألوانها.. ناسها.. عوامل رئيسة ترسم علاقتنا بالمكان. كيف تؤثر عليك؟.
الروائح لها تأثير طبعا علي، هناك رائحة تجذبك، هناك أماكن ترتبط في الذاكرة بالرائحة، مثلا لشارع صلاح الدين في القدس رائحة مميزة، لباب العامود فيها، رائحة كعك غريبة، وحتى للطريق المؤدي للأقصى رائحة مختلفة، تلك الرائحة شممت مثلها في الخليل، عند جامع القزازينت، في خزق الفار، في سوق الصفافير ببغداد شممت رائحة مختلفة، في سوق قديم في حلب يبيعون فيه كل المواد القديمة من الحبال والصابون شعرت برائحة مميزة، وكذلك في سوق الحميدية، وأما منطقة سينما الحمراء في عمان فلها رائحة غريبة جاذبة، أحمل رائحة تظل تناديني وتلح في الذاكرة، من السموع، عثرت على رائحة شبيهة بها في الطفيلة رائحة الطابون، رائحة البيوت القديمة، حتى رائحة المطر حينما ينزل للمرة الأولى مدهشة، رائحة الحقول ورائحة الزيتون تثيرني، لكل مكان رائحة خاصة قد تصيبك بالحنين لمكان آخر، تماما مثل رائحة البشر، ربما تقربك منهم أو تبعدك عنهم.
مقاطع من السيرة
الشاعر موسى حوامدة مواليد فلسطين، بلدة السموع،جنوب الخليل بتاريخ 25-2-1959، درس الإعدادية في مدرسة السموع والثانوية في مدينة الخليل، خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية الجامعة الأردنية 1982.
عمل في عدة صحف منها، جريدة صوت الشعب، الدستور، ثم مديرا للتحرير في جريدة العرب اليوم الأردنية، ثم مديرا لمكتب جريدة الرياض السعودية في عمان، ثم كاتباً ومحرراً في جريدة الدستور، حيث لا يزال يعمل فيها مديرا لتحرير الدائرة الثقافية ومدير تحرير لملحق الدستور الثقافي.
بدأ بنشر قصائده حينما كان طالبا في الجامعة وأصدر مجموعته الأولى «شغب» 1988، «تزدادين سماءً وبساتين» 1999، «شجري أعلى» 1999، «أسفار موسى العهد الأخير» 2002، «من جهة البحر» 2004، «سلالتي الريح عنواني المطر» 2007، «كما يليق بطير طائش» 2007، مختارات شعرية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر (سلالتي الريح عنواني المطر وقصائد أخرى) 2010.
نال حوامدة العديد من الجوائز: جائزة رابطة الكتاب الأردنيين لغير الأعضاء عام 1982عن قصيدة فراغات، جائزة “La Plume” (الريشة) وهي الجائزة الكبرى Grand Prix والتي تمنحها مؤسسة أورياني “Fondation Oriani ” الفرنسية عام 2006، وجائزة مهرجان تيرانوفا الفرنسي.
وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين، عضو اتحاد الكتاب العرب. عضو نقابة الصحفيين الأردنيين.
شارك في عدة مهرجانات شعرية عربية وأوروبية، ترجمت قصائده إلى عدة لغات منها الفارسية الانجليزية الفرنسية الألمانية السويدية الرومانية الكردية البوسنية والتركية، كتب عن شعره العديد من النقاد والكتاب العرب ، قام المخرج ناصرعمر بإخراج فيلم سينمائي عن تجربته الشعرية ضمن برنامج «هؤلاء الآخرون»، بث على قناة أوربت وبعض القنوات الفضائية.
المفضلات