إبراهيم كشت - ربما بات تناول مثل هذا الموضوع بالكتابة (أو القراءة) مملاً ، ومكرراً . لكن دعونا نتذكر أن جميع المقالات ، والندوات ، والوثائق الموقعة المتضمنة الاتفاق على استنكار وحظر إطلاق النار في المناسبات ، والمناشدات الشعبية والرسمية ، بل والقوانين والعقوبات والإجراءات ، لم تستطع أن تقضي على هذا السلوك ، وليس أدلّ على ذلك مما حدث ليلة إعلان نتائج الثانوية العامة قبل أيام ، وما ترتب على ذلك من إصابات ووفيات ، ناهيك عما تسبب به من خوف وقلق وتوتر لدى الأهالي ، مما يشير إلى حاجة هذا الموضوع فعلاً الى مزيد من البحث وتسليط الضوء ، وسوف أتطرق إلى ذلك بإيجاز ، من خلال ثماني إشارات:
الإشارة الأولى :
العيار الناري من حيث فعله وتأثيره ومجال استخدامه الأساسي ، لا يعدو أن يكون أداة قتل وإيذاء ، ووسيلة هجوم أو دفاع ، وسلاحاً لا يكاد يُستغنى عنه في أي حرب ، وأن تستخدم هذه الأداة ذاتها في التعبير عن الفرح ، بكل هذا الحجم من الإصرار (رغم العواقب) ، فذلك سلوك يحتاج إلى تحليل متخصص يبيّن المنطلق النفسي العميق له . فلو نظرنا إلى المسألة من الجهة المقابلة ، لحقَّ لنا أن نتساءل عن الفرق بين من يستخدم العيار الناري تعبيراً عن الفرح ، ومن يستخدم الموسيقى والرقص والتصفيق تعبيراً عن الحزن والغضب .
الإشارة الثانية :
إن مجرد التصفّح السريع لما نشر في المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي والصحف العربية من أخبار حول إطلاق العيارات النارية في الأفراح ، يشير إلى أن هذا السلوك منتشر في معظم المجتمعات العربية ، وأن الأحداث الناجمة عن هذا الفعل مؤلمة دائماً، ومنها مثلاً مقتل العريس ذاته (دون قصد) بيد والد العروس ، ومقتل وجرح عدد من الحضور (في المناسبة السعيدة) دفعة واحدة . كما تشير هذه الأخبار عادة إلى عِظَم الجهود الرسمية والأهلية المبذولة لمقاومة هذا النمط من التعبير عن الأفراح ، لكن دون جدوى . أما ما لا تجده فيما تتصفح وتقرأ حول الموضوع ، فهو أي إشارة لبحوث علمية جادّة تتناول هذا السلوك كمشكلة اجتماعية ، لها أسبابها وأعراضها وتأثيراتها وعلاجها .
الإشارة الثالثة :
إن لفت الانتباه ، والتباهي ، والاستعراض ، وحب الظهور ، تلعب دوراً مهماً في رغبتنا بإحداث ضجيجٍ مرتفع وصخبٍ ملفتٍ عند الفرح . ومن ذلك استخدام مكبرات الصوت ، وزعيق أبواق مواكب السيارات ، والعيارات النارية والمفرقعات ، فكأن واقع حالنا يقول : لا يهمّني أني فَرِحٌ سعيد ، بقدر ما يهمني أن يلتفت كل الناس لوجودي وفرحتي ، حتى لو اضطررتُ إلى تنبيههم إلى ذلك بصوت العيار الناري ، أو بأي صوت صاخبٍ آخر ... !
الإشارة الرابعة :
أن تفشل جميع المحاولات والجهود المبذولة من قبل الجهات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني عبر السنوات ، وأن تخفق كل الأحداث الأليمة المتكررة المترتبة عن إطلاق العيارات النارية في الأفراح ، ولا تنجح الروادع والزواجر والعقوبات في الحدِّ من هذا السلوك أو اجتثاث بواعثه ، فهذا يدل على شِدّةِ رسوخ الثقافة التي ينطلق عنها السلوك ، وتشعّب امتداداتها النفسية والفكرية في النفوس . وبالتالي فإن علاجها لا يكون بالقانون وحده ، وإنما يحتاج إلى استمرار تدخل كل الجهات القادرة على التأثير في الثقافة السائدة : من تربية وتعليم وجامعات ودور عبادة ونوادٍ وجمعيات ومرجعيات أخرى ، في محاولة لخلخلة جذور هذه الثقافة بالإقناع ، دون أن نقلل بذلك من دور القانون وأثر تنفيذه .
الإشارة الخامسة :
يقول مفكر فرنسي اسمه «جاستون برثول» : { إن إحدى الخصائص الرئيسة لكل حضارة ، تلك الطريقة التي تفهم وتنظم بها العدوانية } وربما لا نجانب الصواب إذا أضفنا لقوله : وإن إحدى خصائص ثقافة أي مجتمع تلك الطريقة التي يعبر من خلالها أفرادها عن أفراحهم .
الإشارة السادسة :
إذا لمستَ أن ردَّ الفعل على أي حدث يتجاوز حجم ذلك الحدث ، ويفوق ما هو طبيعي ومعتدل ومتوازن ، فابحث عن السبب النفسي خلف ذلك ، ولا تبحث عن تأثير الحدث ذاته ، فالاحتفال من خلال مخالفة أحكام القانون ، وإزعاج الناس ، وإرباك حركة المرور ، والتسبب بإصابة أشخاص بعيارات حية ، ولو فارغة هابطة من السماء ، أو التسبب في الدهس أثناء مواكب الفرح ، كلها ردود فعل لا تتناسب مع حجم الحدث ، مما يعني أن لها أسبابها النفسية، ولها بواعث اجتماعية ذات أصول ثقافية .
الإشارة السابعة :
إن جميع مشاعر الفرح التي يعيشها أبناء المجتمع ، نتيجة النجاح في الثانوية العامة ، أو نتيجةً لأي حدث سعيد آخر ، لا تعدل في حجمها وعمقها وأثرها وامتدادها ، مشاعر الألم التي تعانيها أسرة واحدة فقدت طفلاً أو شاباً نتيجة عيار ناري طائش ، كان مُطلقُهُ يريد أن يُعبر عن الفرح ، لكن العيار الناري عاد إلى طبيعته كأداة موتٍ وإيذاء ...!
الإشارة الثامنة :
يخطر للمرء أن يتساءل وهو يشهد المبالغة في الاحتفال بنتائج الثانوية لهذا العام ، من خلال سيل من العيارات النارية والمفرقعات : أي مستوىً فكريّ وعلميّ يخرّج التوجيهي بمنهجه الحالي ؟ وماذا يُجدي كل ما يحفظه الطلاب من نقاط وفقرات ، وكل ما يحيط بامتحان الثانوية من رهبة وما يتلوه من صخب الاحتفالات ؟ هل يُخرّج طلاباً قادرين على البحث والتفكير الناقد والإبداع ؟ أم يُخَرِّجُ مَنْ لا يستطيعون سوى إعادة إنتاج القديم ، وتكرار المقولات المتداولة المحفوظة ، بل وإن كثيراً منهم لا يستطيع حتى استخدام لغته استخداماً سليماً يخلو من الخطأ في التعبير والإملاء ، ولا يحمل من الأفكار إلا ما يبعث على التعارك داخل حرم الجامعات ، والبحث عن الوساطات ، وتعزيز العصبيات ..؟!
المفضلات