القيادة والإبداع والكذب والخطأ
كلما تطور العلم كشف لنا حقائق جديدة تثبت عظمة هذا القرآن، وعظمة حديث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وفي هذا البحث حقائق تتجلى في آيات الله في الدماغ، لنقرأ ونسبح الله....
هناك آيات تلفت انتباه المؤمن والمؤمن مطلوب منه دائماً أن يتدبر القرآن لكي لا يكون مقفل القلب، يقول تبارك وتعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]، ومن هذه الآيات الكثيرة التي يتدبرها المؤمن ويفكر بما فيها من معاني ودلالات ومعجزات قول الحق تبارك وتعالى على لسان سيدنا هود عندما خاطب قومه بقوله: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم) ماذا قال سيدنا هود قال: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [هود:56].
والسؤال الذي يطرحه المؤمن أثناء تدبره لهذه الآية: لماذا خصَّ الله تبارك وتعالى منطقة الناصية بأن الله آخذ بها: (مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) ومنطقة الناصية هي أعلى مقدم الرأس، وقال في آية أخرى عن أبي جهل الذي آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ) أي لم ينته عن إيذاءه وكفره وإلحاده (كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ *نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) [العلق: 15-16]، وهنا نلاحظ أن الله تبارك وتعالى وصف منطقة الناصية بأنها كاذبة وخاطئة.
ولو تأملنا أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام سوف نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بدعاء عجيب يقول فيه: (اللهم إنني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكم، عدلٌ فيّ قضائك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي) وهنا نلاحظ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ناصيتي بيدك) والسؤال: لماذا هذا التأكيد على منطقة الناصية؟ ماذا يوجد خلف هذه المنطقة؟ ما مهمة هذه المنطقة؟ لماذا الله تبارك وتعالى دائماً يذكر هذه المنطقة أن الله هو يأخذ بها وهو يوجهها حيث يشاء؟
اختراع جهاز كشف الكذب
ما كشفت عنه الأبحاث العلمية الجديدة أن هناك فريق من العلماء في سنة 2006م فكروا بإيجاد وسيلة لمعرفة المنطقة المسؤولة عن الكذب في الإنسان، وطبعاً كان هدفهم من وراء هذه التجربة أن يخترعوا أو يصمِّموا جهازاً يكشف الكذب عند الإنسان، فاللصوص والمجرمون البارعون في الكذب كانوا يتحايلون على كلّ الأجهزة التي اخترعها العلماء سابقاً، والأجهزة السابقة كانت تقيس نبرة الصوت، وتقيس دقات القلب، وتقيس أيضا كمية العرق التي يفرزها الإنسان، ويراقب أشياء أخرى تتعلق بفيزيولوجية هذا الإنسان، وعندما يبدأ الإنسان بالكذب فإن شيئاً ما سيضطرب إما أن يحدث تسريع في دقات القلب، وإما أن تحدث زيادة في الإفرازات العرقية لدى الإنسان، أو يحدث تنفس سريع...
ولكن الكاذبين المحترفين كانوا يتحايلون على كل هذه الأجهزة فتجدهم يجلسون بكل هدوء ولا يظهر عليهم أي أثر أثناء التحقيق معهم، وبالتالي أثبتت كل هذه الأجهزة فشلها، فلجأ العلماء في هذه التجربة الجديدة إلى الدماغ وقالوا لا بد أن يكون فيه منطقة مسؤولة عن الكذب، قد تكون في أسفل الدماغ أو في الجهة اليمنى أو اليسرى أو الأمامية. فأحضروا من أجل هذا الهدف ما يمسى بجهاز المسح الوظيفي الذي يعمل بالرنين المغناطيسي.
ما مهمة هذا الجهاز وكيف يعمل؟
إنه عبارة عن جهاز يرصد نشاط الدماغ، حيث يوضع المريض ويحاط دماغه بقرص معين وتتوضّع خلف هذا القرص الأجهزة المربوطة مع أجهزة الكمبيوتر، وطبعاً هذا الجهاز لا يمس الإنسان إنما هي صور تؤخذ بموجات كهرطيسية فقط، فالدماغ كما نعلم في حالة نشاط دائم، والله تبارك وتعالى الذي خلق الإنسان قسّم دماغه إلى مناطق فكل منطقة لها عمل ولها وظيفة محددة، وعندما قام العلماء بتجربة هذا الجهاز (الرنين المغناطيسي) وطلبوا من إنسان أن يكذب، فالذي حدث أنهم لاحظوا وجود نشاط كبير في المنطقة الأمامية العليا من الدماغ أي في منطقة الناصية وناصية الرأس هي أعلى مقدمة الرأس.
ولاحظوا أيضا أن هذه المنطقة يجري فيها الدم بسرعة لأن عمليات كثيرة تتم بها أثناء الكذب. فخرجوا بنتيجة وهي بأن المنطقة الأمامية العليا من الدماغ هي المسؤولة عن الكذب، وربما الاكتشاف الأهم أنهم وجدوا أن الإنسان عندما يكون صادقاً، أي: عندما يتكلم بصدق، فإنه تكاد لا تكون أي منطقة ذات نشاط في دماغه أي أنه لا يصرف أي طاقة تذكر.
لاحظ العلماء أن النشاط يكون أكبر ما يمكن في منطقة الناصية أثناء الكذب، بينما لم يلاحظوا نشاطاً يُذكر أثناء الصدق، وهذا ما جعلهم يعتقدون أن الدماغ قد فُطر على الصدق!!
الكذب يتطلب طاقة أكبر
لقد خرجوا بنتيجة أخرى وهي أن عملية الكذب تتطلب إسرافاً في الطاقة، فالإنسان عندما يكون صادقاً لا يصرف أي طاقة من دماغه، وعندما يكذب فإنه يصرف طاقة كبيرة بسبب هذا الكذب وطبعاً هذه النتائج نتائج يقينية لأنهم رصدوا حركة الدم داخل هذا الدماغ في الخلايا العصبية للدماغ ووجدوا أن المنطقة الأمامية منطقة الناصية تزداد نشاطاً بشكل كبير أثناء عملية الكذب.
ثم عندما جربوا هذه الطريقة على كثير من الناس وجدوا أن الإنسان لا يمكن أبداً أن يتحكم بدماغه، فالإنسان بمجرد أن يكذب فإن نشاطاً سوف يحدث في دماغه في منطقة الناصية ولا يمكن أن يوقف هذا النشاط، وبالتالي يمكن للبعض أحياناً أن يتحكم بدقات قلبه أو تقاسيم وجهه، ولكن هذه الطاقة التي تُصرف أثناء الكذب لا يمكنه أن يلغيها أو يتحكَّم بها. ولذلك قالوا أن أفضل الطريقة لكشف الكذب عند الإنسان أن نراقب منطقة الناصية وأن هذه المنطقة تتوضع فيها مراكز الكذب.
يعتمد مبدأ هذا الجهاز على إرسال موجات مغنطيسية باتجاه الدماغ، هذه الموجات تصطدم بالخلايا العصبية في الدماغ، ثم ترتد ولكن بأشكال مختلفة حسب نوع المنطقة ونشاطها، فالمنطقة الأنشط في الدماغ (التي يتدفق فيها الدم أكثر وبالتالي نسبة الهيموغلوبين أو الأكسجين فيها أكبر) سوف تعطي شكلاً مختلفاً للموجات الصادرة عنها، ويمكن بالتالي معرفة المنطقة النشطة في الدماغ وشدة هذا النشاط.
مركز الخطأ في الناصية
بعد ذلك قام العلماء في جامعة "ميشيغان" أيضاً في عام 2006م بإجراء تجربة فريدة من نوعها أرادوا أن يعالجوا ظاهرة الخطأ، فالإنسان عندما يقوم باتخاذ القرارات أحياناً يتخذ قراراً مصيباً وأحياناً قراراً خاطئاً، فأرادوا أن يعلموا ما هي المنطقة المسؤولة عن الخطأ في الدماغ فماذا فعلوا؟ لجؤوا إلى الجهاز نفسه أي fMRIجهاز المسح الوظيفي بالرنين المغنطسيي، وجاءوا بأناس وأخبروهم بأن يرتكبوا أخطاءً متنوعة وكانت نتيجة هذا البحث الذي نشرته مجلة علم الأعصاب حديثاً، أن المنطقة الأمامية العليا أي منطقة الناصية هي المسؤولة عن الخطأ لدى الإنسان، لأنهم لاحظوا نشاطاً كبيراً يحدث في هذه المنطقة أثناء ارتكاب أي خطأ، وكلما كان الخطأ أكبر كلما كان النشاط أكبر لهذه المنطقة.
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ
من هنا فإن العلماء خرجوا بنتيجة يقينية وهي أن مركز الخطأ ومركز الكذب هما في منطقة الناصية أي في المنطقة الأمامية العليا من الدماغ، وهذا ما أخبرنا عنه القرآن في كلمتين فقط (كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ *نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) [العلق: 15-16]، مع أن المفسرين رحمهم الله تعالى لم يدركوا هذا الأمر فقالوا إن الناصية لا تكذب وفسروا هذه الآية على أن أشرف منطقة في الإنسان هي منطقة الناصية (أي جبينه أعلى رأسه) وبالتالي فإن الله تبارك تعالى سيأخذ أبا جهل من هذه المنطقة ويقذف به في نار جهنم والعياذ بالله.
ولكن الله تبارك وتعالى كل كلمة يقولها هي الحق وهي الصدق من عنده سبحانه وتعالى حتى عندما يشبه لنا القرآن أي تشبيه فإنه يتكلم بلغة الحقائق العلمية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن القرآن دائماً يسبق العلم بل ويتفوق على العلم.
مركز الإبداع والقيادة
والتجربة التي قام بها أيضاً بعض العلماء حديثاً أرادوا أن يعرفوا من خلالها مكان القيادة لدى الإنسان، ففي دراستهم لعمليات الإبداع وعمليات الإدراك لدى الإنسان وبهدف تطوير مدارك هذا الإنسان قالوا لا بد أن نبحث عن تلك المنطقة المسؤولة عن اتخاذ تلك القرارات وعن الإبداع التي تتحكم بنجاح هذا الإنسان وفشله، فبعد ذلك قاموا بتجربة وهي أن الإنسان لا بد أن يكون هنالك منطقة ما في دماغه مسؤولة عن هذه العمليات، فقاموا بإحضار بعض الناس وطلبوا منهم أن يتخذوا بعض القرارات الهامة، وجعلوهم أيضا يفكرون تفكيراً إبداعياً فوجدوا دائماً بعد أخذ القياسات من الجهاز fMRI الرنين المغناطيسي وجدوا أن منطقة الناصية أيضاً تنشط عندما يتخذ الإنسان قراراً حاسماً في حياته، وعندما يفكر تفكيراً إبداعياً، أي عندما يحاول أن يستكشف ويتفكر ويتدبر أو أن يفعل أشياء فيها إبداع، لاحظوا أن منطقة الناصية هي المسؤولة عن هذا الأمر أيضاً.
أظهرت التجارب بواسطة جهاز المسح بالرنين المغنطيسي أن الناصية وهي مقدمة وأعلى الدماغ تنشط بشكل كبير أثناء الكذب، وكذلك أثناء الخطأ وهذا ما جعل العلماء يستيقنون بأن الناصية هي التي تقوم بتوجيه الإنسان أثناء عملية الكذب والخطأ. وتبين الصور أن منطقة الناصية تنشط أثناء الأعمال الإبداعية، وكذلك أثناء اتخاذ القرارات الكبيرة في حياة الإنسان، وهي بحق من أهم مناطق الدماغ.
نتائج علمية يقينية
وهكذا تبين للعلماء أن المنطقة المسؤولة عن الخطأ كما قلنا هي منطقة الناصية وهنا نتذكر قول الحق تبارك وتعالى عندما قال على لسان سيدنا هود عليه السلام (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود:56]، أي أن الله تبارك وتعالى يأخذ بناصية كل المخلوقات ويوجه هذه المخلوقات كيف يشاء، ولذلك ماذا قال في تتمة الآية (أن رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [هود:56]، أي أن الله تبارك وتعالى بالتعاليم التي أعطانا إياها إذا طبقنا هذه التعاليم فسنكون على صراط مستقيم، لن تخطئ قراراتنا أبداً.
لماذا ذكر الله هذه الحقيقة؟
وهنا أود أن أتوقف مع الهدف دائماً نحن نقول إن الإعجاز العلمي هو وسيلة لزيادة الإيمان بالنسبة للمؤمن وسيلة لأولئك المشككين ليدركوا من خلاله عظمة هذا الدين وصدق هذا القرآن. ولكن هنالك هدف آخر مهم جداً: ماذا استفدنا من هذه الحقائق؟ كيف نطبق هذه الحقائق في حياتنا؟
وأقول لكم إنني عندما سمعت هذه الآية على لسان سيدنا هود، قلت إن الله تبارك وتعالى أراد أن يعلِّمنا منها شيئاً: أن الإنسان إذا أحس في حياته أنه سيخطئ أو كان على أبواب أن يتخذ قراراً يخشى أن يكون قراراً خاطئاً، فإن عليه أن يدعو بدعاء سيدنا هو عليه السلام: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أن رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [هود: 56]. فإن الله تبارك وتعالى قد أودع في هذه الآية لغة أخرى لا نفهمها، قد تفهمها خلايا دماغنا، عندما نكرِّر هذه الآية عدة مرات فإن الله تبارك وتعالى سيعيننا ببركة هذه الآية على أن نتخذ القرار الصحيح.
الناصية مركز الشفاء
حتى إننا عندما نريد أن نتلو آيات من القرآن من أجل شفاء مرض معين فإن هذه الناصية مهمة جداً في هذا الموضوع، أي أننا ينبغي أن نضع يدنا على هذه المنطقة ونقرأ مثلاً سورة الفاتحة أو الآية التي نريدها والتي نعتقد أن فيها شفاءً من هذا المرض، لماذا؟
لأن هذه المنطقة أشبه بخزان كبير للأخطاء للكذب للقرارات الخاطئة للأشياء الكثيرة التي يقوم بها الإنسان، ولا بد من تطهير وصيانة هذه المنطقة دائماً، لا بد أن نتوجه إلى الله تبارك وتعالى وكما كان النبي يتوجه عليه الصلاة والسلام ويقول (ناصيتي بيدك) وكأن النبي عليه الصلاة والسلام قد سلّم مركز القيادة لديه إلى الله تبارك وتعالى: يا رب أنا سلمتك هذه الناصية التي هي مسئولة عن الكذب ومسئولة عن الخطأ ومسؤولة عن الإدراك ومسئولة أيضا عن الإبداع، فأنت يا رب توجهها كيف تشاء وتفعل بي ما تشاء، وهنا ندرك معجزة لطيفة للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الموضوع عندما قال: (ناصيتي بيدك).
قراءة جديدة
لذلك عندما نقرأ هذه الآيات: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أن رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [هود:56]، عند قراءتنا لهذه الآية قراءة جديدة بعد تدبرها سوف نتذوقها ونشعر بطعم مختلف، وهذا ما أريده دائماً، ينبغي على المؤمن أن يقرأ القرآن بتدبر ليشعر بحلاوة الإيمان، فكثير من الناس يعبد الله ويقرأ القرآن ويصلي ولكن لا يحس بهذه الحلاوة، فإذا أردت أن تشعر بحلاوة الإيمان وأن يكون لديك إحساس بالفرح والسعادة فعليك أن تتدبر هذا القرآن، لأن الله تبارك وتعالى يقول: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].
ــــــــــــــ
بقلم عبد الدائم الكحيل
المفضلات