مناور عويس: المثقف الذي حمل بداخله ملامح مرحلة كاملة
كانت عجلون، ومنذ رفع أسامة بن منقذ، أبراج قلعتها الحصينة على قمة جبل عوف، العين الساهرة على الأرض المقدسة وفلسطين حتى شواطئ البحر المتوسط، فالأصوات تتسامر، والمهج تتلاقى، النظر لا يمل التأمل وقراءة التاريخ المشترك، فصلاح الدين الأيوبي الذي أدرك إستراتيجية موقع عجلون، اتخذها قاعدة متقدمة لمواجهة الصليبين، ونقطة ارتكاز للتقدم نحو حطين، تمهيداً لتحرير بيت المقدس من يد الصليبيين، ولعله دور لم ينقطع حتى في زمن الحروب الحديثة، وقد انعكس المكان على ساكنيه، فتحركوا في المنطقة غرباً، لم يغب فعلهم على مر التاريخ منذ الكنعانية ومروراً بالحملة الفرنسية بقيادة نابليون، التي وصلت حتى أسوار عكا، حيث هاجمهم جيش قادم من شرق الأردن، في إدراك لوحدة الأرض والمصير.
لم تكن حياة مناور عويس ابن عجلون، سوى ترجمة لهذا التاريخ، وصورة من صور ارتباط الأرض، وتمازج أبناء هذه الأرض المباركة، على جانبي النهر المقدس، والمصير الذي لم يقطعه الحد المفروض ولا حقول الألغام، وهو قدر تمثله الإنسان الأردني منذ القدم ولا زال ينهض به، فلقد أطلق مناور عويس صرخته الأولى، معلناً قدومه إلى الحياة، عام 1914م، متزامناً مولده مع اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى، وفي خضم حالة المنطقة التي أخذت تتأهب للثورة وتغيير الواقع الماثل منذ أمد بعيد، وكانت عجلون مسقط رأسه، ومربى طفولته، حيث كان يخف بصره تلال فلسطين الوقعة في مرمى المدى القريب، لا شك أن خيالات كثيرة ارتسمت في مخيلة هذا الطفل المتوثب للأيام القادمة، فالغرب يعني له شروقاً مختلفاً لحياة عامرة بالتحولات، لذا لم ينثر أيام شقاوة الطفولة هكذا دون جدوى، بل كان النظر في البعيد، جزء من المضي قدماً في الحياة، التي لم تكن سهلة أبداً في تلك الفترة من تاريخ المنطقة، حيث تم إهمال البلاد العربية، ولا وجود لشيء من التنمية المطلوبة، ورزح أهالي البلدات تحت سياط الفقر والحاجة، وقلة المدارس والمؤسسات.
كان من حسن طالع مناور عويس، أن تمكن من الالتحاق بحدى المدارس الطائفية المتوفرة، وبذلك حصل على فرصة نادرة لكي يتلقى تعليمه المدرسي للمرحلة الابتدائية، وقد لفت انتباه مدرسيه، لتفوقه وجديته في تلقي المعرفة، وكان محبوباً من رجال الدين المشرفين على المدرسة، ولأن منطقة عجلون تفتقر للمدارس الثانوية، فقد قام أحد الآباء الكاثوليك بمساعدته ودعمه حتى يتمكن من إكمال دراسته الثانوية، في كلية تراسانطة بالقدس، حيث توجب عليه ترك بلدته ومفارقة أهله في عجلون، السفر إلى القدس للدراسة وهو في عمر الرابعة عشر، فأقدم على ذلك مدفوعاً بحب الدراسة، والبحث عن حياة مختلفة، لذا أمضى ثلاثة سنوات في القدس طالباً في كلية تراسانطة، حصل بعدها على الشهادة الثانوية المتوفرة في تلك الأيام، لكن اجتيازه لهذه المرحلة الشاقة، وحصله على شهادة كانت كفيلة أن يحصل على وظيفة جيدة في التدريس، إلا أنه فضل متابعة حلمه حتى النهاية.
توجه مناور عويس بعد مرحلة القدس، إلى حاضرة بلاد الشام، دمشق ومنها وصل إلى اللاذقية على البحر الأبيض المتوسط، رغبة منه في مواصلة تعليمه، وتمكن من تحصيل ذلك عندما حصل على شهادة الدبلوم بالفرع الزراعي، وكان ذلك سنة 1934م، ويعتبر هذا التخصص نادراً في تلك الفترة المبكرة من عمر الدولة الأردنية الحديثة، ويبدو أن عويس لم يرغب بالوظيفة من خلال هذا التخصص، لأن ميوله الأدبية أخذت بالظهور بوقت مبكر، وتمكنت من التأثير عليه وتغيير مساره، عن العمل في مجال التدريب أو الإشراف الزراعي، لذا فقد أمضى ما يقارب الثلاث سنوات بلا عمل، بحثاً العمل الذي يرغب به، فلقد أحب التدريس، وفضل العمل فيه على سواه، وفي سبيل ذلك حزم حقائب الرحيل صوب يافا، التي كان يرقب أضوائها من قمة جبل عوف، وهناك عين مدرساً في مدرسة مسيحية.
على شواطئ يافا زاد مناور عويس من اهتمامه بالأدب، وبالصحافة، وبدأ بتشكيل هويته الخاصة في هذا المجال، وأخذت كتاباته ومقالاته تظهر في الصحف والمجلات الأدبية، التي كانت تصدر في لبنان ومصر، وتكون حضوره الأدبي شيئاً فشيئاً، ولم يقف طموحه عند هذا الحد، بل توجه إلى إذاعة الشرق الأدنى التي كانت بث برامجها من يافا، من خلال إسهامه في البرامج الثقافية، والأحاديث الأدبية، وسعى إلى تمتين صلاته مع عدد من كبار الكتاب العرب، فعمل على مراسلة عدد منهم وشيد علاقات جيدة مع عدد منهم، من أمثال ناسك الشخروب ومخائيل نعيمة، وبينه وبينهم مراسلات استمرت فترة لا بأس بها، وقد تعلق عويس بفلسطين وطابت له الإقامة هناك، محققنا التواصل الإنساني والاجتماعي الطبيعي بين شطري نهر الأردن.
لم يقدر لمناور عويس أن تسير حياته على هذه الوتيرة، كما هو حال الغالبية العظمى من أبناء فلسطين، فلقد تفجرت المؤامرة وانكشفت النوايا المبيتة، وحدثت النكبة حيث ضاع جزء كبير من فلسطين، واضطر إلى مغادرة يافا والعودة إلى مسقط رأسه عجلون، حاملاً معه حلمه المكسور من فقدان مدينة التي أحب يافا، لكن إيمانه بحتمية عودة الحق لأصحابه، جعله يندفع للعمل من جديد، وأخذ على نفسه تنشيط الحراك الثقافي في بلدته عجلون، فعمل على تأسيس منتدى ثقافي، ضم عدداً من نخبة أبناء المنطقة من المثقفين والمهتمين، حيث أسهم هذا المنتدى في تحريك المشهد في عجلون، ومن بين الذين انضموا لهذه المؤسسة الثقافية، الصحفي يعقوب عويس والكاتب شفيق عريضة، وقد نشط مناور بإلقاء المحاضرات وإقامة الندوات، مركزاً على القضية الفلسطينية، وملقياً الضوء على الحركة الأدبية والثقافية في فلسطين قبل النكبة. (معجم الأدباء الأردنيين)
في خمسينيات القرن الماضي، أنتقل مناور عويس إلى عمان وأقام فيها، حيث تم تعيينه مدرساً للغة العربية في مدرسة الجبيهة الزراعية، وبذلك يكون عويس قد عاد إلى المهنة التي أحب منذ بداية حياته، لكن الجانب الأدبي منه لم يغب في أي مرحلة من حياته، وقد بادر عن تأسيس الإذاعة الأردنية بالمشاركة فيها من خلال إعداد وتقديم البرامج الثقافية، وقد شارك بفعالية كبيرة كتابة التمثيليات الحوارية للإذاعة، واستمر في كتابتها حتى منتصف الستينيات من القرن الماضي، ولم يأخذ العمل في التدريس والإذاعة عن مواصلة الكتابة والنشر في الصحف والمجلات الأردنية، بالإضافة لنشر في الصحف اللبنانية والمصرية والسورية والفلسطينية، لكن نشاطه الصحفي في سنواته الأخيرة تركز على الصحف الأردنية، من المؤسف أن مناور عويس لم يعمد إلى جمع نتاجه الثقافي والصحفي في كتب، ولم ينشر أي منها على شكل كتاب، حيث توفي في عمان عام 1988م، غير أن ذويه قاموا بجمع ما استطاعوا من كتاباته المتفرقة، عملوا على نشرها بكتاب قدم له الدكتور عبد الرحمن ياغي، وقد صدر الكتاب تحت عنوان ( أوراق مبعثرة ) ومازال جزء من نتاج هذا المثقف الكبير بانتظار الدراسة والتحليل، خاصة أنه كتب في مرحلة بالغة الدق، مرحلة ما زالت تأثيراتها ماثلة حتى يومنا هذا.
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مشاعر عنيده
المفضلات