دور الأدب ,ودور العلم
جوهر الأدب مشاعر وخواطر وخلجات وهواجس وخيالات، يجري التعبير عنها بلغة مُوحِيَةٍ فيها جمال . أما جوهر العلم، فهو حقائق يتم التوصل إليها من خلال مناهج سليمة، يقوم على صحتها دليل من المنطق والتجربة والبرهان .
لا ينظر الأديب إلى ظاهر الأشياء والأحداث والعلاقات، وإنما إلى ما توحي به من شعور وخيال، وعلى رأي المازني فإن (الشاعر لا يصور الأمر كما هو وإنما كما يبدو له). والعالِمُ كذلك الحال لا ينظر إلى ظاهر الأشياء والوقائع وصلاتها، ولا ينظر إلى ما توحي به، وإنما ينظر إلى جوهرها وحقيقتها وماهيتها .
والصدق الواقعي ليس شرطاً في الأدب، فلا حاجة لأن تكون أحداث قصة الروائي حقيقية، أو خيالات الشاعر وتصوراته ورموز قصيدته متوافقة مع ما هو قائم في الواقع ومحسوس، فالشاعر كما قيل (يُجسِّمُ المجرّدَ، ويجرّدُ المُجسَّمَ) ومع ذلك لا نَصِفهُ بالكذب، فالمهم في الأدب هو صدق الشعور وصدق التعبير . أما في العلم فإن الصدق الواقعي (بمعنى تطابق القول مع الحقيقة والواقع) أساس مهم لا يكون العلم بدونه علماً .
وللأدب - كما للعلم - وظيفته في الحياة، وهي بشكل رئيس، وظيفة نفسية واجتماعية وإنسانية، يؤدّيها الأدب ولو بدون قصد، ويصل إليها ولو بطريق غير مباشر، ويبلغها ولو لم يكن ذلك في ذات الأوان واللحظةِ . فالأدب يملك تحقيق البهجة والمتعة الراقية للنفس، وذلك بمقدار ما يكون فيه من جمال، وهو جمال يسمو بالنفس، ويرتفع بالذوق العام والخاص . كما أن الأدب فاعل وناجع في تفريغ كثير من المشاعر السلبية بأساليب حضارية، تحول دون التعبير عن هذه المشاعر بوسائل العنف والعدوان، سواء بالنسبة للمرسل أو المتلقّي، أعني سواء لمن يكتب الأدب أو يقرأه. كما أن الأدب قادر على التأثير في القيم والاتجاهات والثقافات وتعديلها، من خلال قدرته على الإيحاء .
ويسهم الأدب كذلك في تنبيه الناس إلى الأحداث والوقائع والعلاقات والتغيّرات الاجتماعية، ويحاول تفسيرها وتحليلها والحكم عليها بطريقة غير مباشرة . كما يقوم الأدب عادة بتسليط الضوء على جوانب دقيقة وغامضة من النفس البشرية، ويبيّن أثر تلك الجوانب في السلوك والواقع، على نحو يُعين المتلقّي على فهم ذاته وفهم الآخر على نحو أعمق . إضافة لهذا وذاك، فإن للأدب قدرةً معتبرةً في شحذ الهمم، وإثارة الحماس، والتأثير في المعنويات، ولا سيما في القضايا الوطنية والإنسانية والاجتماعية.
وبغض النظر عن طول النقاشات حول ما إذا كان (الأدب للأدب) أم لغير الأدب، وإذا ما كان الالتزام شرطاً في الأعمال الأدبية أم لم يكن، وعما إذا كانت علاقة الأدب بالمجتمع علاقة التزام، أم مجرد علاقة تأثّر وتأثير (على رأي طه حسين) . فإن أيّما جانب من جوانب الحياة سواء أكان سياسةً أم اقتصاداً أم إدارةً أم علماً إنسانياً أم علماً بحتاً أم تطبيقياً، لا قيمة له ولا جدوى منه ما لم تكن له وظيفة إنسانية ايجابية يؤديها .
هذا ما يتعلق بوظيفة الأدب، أما وظيفة العلم فالإشارة إليها مجرد سردٍ للبدهيّات، فقد كان العلم دائماً أكبر خادم للإنسانية في مجال الصحة والاتصال والنقل والمعلومات والإعلام والعمران والترفيه والاقتصاد والإدارة وكل مجال إنساني آخر . لكن ما زالت ثمة معوقات تحول دون ممارسة العلم لدوره الكامل في تصحيح التفكير، واستئصال الخرافات، ونبذ الأساطير، ومقاومة الأفكار المغلوطة المترسبة . فالناس يَقبلونَ العلم حين يتحول إلى تكنولوجيا، ويستخدمون نتاجَهُ من الاختراعات، بل لا يستغنون عنها، لكن كثيراً منهم يأبى العلم ويستكبر إذا تعلق الأمر بمعتقداته القديمة، أو بما يتبناه من خرافات متأصِّلةٍ، ومغالطاتٍ متجذِّرة، أو إذا تعلق الأمر بنظرته المستعلية إلى ذاته، واعتقاده بتنزهه عن كل الخلائق في البيئة، فهو ينبذ العلم حينئذٍ ويعافه، أو يحاول أن يكيِّفَ المقولات العلمية، ويغير من مفهومها، بما يواتي قناعاته تلك ونظرته إلى ذاته .
ويمكن للأدب هنا أن يلعب دوراً مهماً في خدمة العلم، بما له (أي للأدب) من قدرة على التأثير والإيحاء وتغيير القناعات والقيم والثقافات وأنماط التفكير . فكم يكون فعل الأدب جليلاً وسامياً، إن هو سعى في ترسيخ الثقافة العلمية، وروّج للتفكير المنطقي، وحرّك حملة واسعة ضد الخرافة والمغالطة . وهو بفعله ذاك حينئذٍ لا يخدم العلم وحسب، بل يخدم الإنسانية جمعاء .
المفضلات