شدتني الروائح المنبعثة بقوة.
فللرائحة سحر يغويني ويقودني مغمضة العينين نحوها ونحو مصدرها ، حيث انبعثت من دكان العطار «أبو أنيس»
بالقرب من «الحسبة « في شارع طلال.
توقفت أمام الدكان كطفلة ، وسألت الحاج وأصابعي تعبث بأكياس حصى البان والمرمرية والزعتر ورجل الدب
والكركديه والحبق وورد الدوري الناشف ، وغيرها الكثير الكثير مما تفيض به دكان العطار وتزيد.
الأكياس متراصة بجانب بعضها بعضاً ، وتكاد تقضم الرصيف تحت أقدام المارة .
- ما مصدر كل هذه الأعشاب يا حاج؟
تناولت مقعداً من القش عثرت عليه وسط الأكياس وجلست.
- الكثير منها نزرعه هنا، وبعضها يتم استيراده من الخارج.
على الفور حضرت « زي «؛ مكاني الأول.
تجذبني الرائحة ، وهي دليلي الذي لا يخطئ في استعادة الأشياء والأماكن ، واستحضار البعيدين برائحتهم التي أحتفظ
بها في مكان سري لا أهتدي إليه إلا بحضور ناسه.
أشم رائحة الياسمين الأبيض ، فتحضر أمي وبين أصابعها مقص صغير تشذب فيه الأغصان وتلم نوارها الأبيض لتضعه في سلة صغيرة بصالون الضيوف.
وثمة رائحة تفيض بالدمع ، ونحن نقف على مبعدة أمتار قليلة من طبرية المحتلة ، وبحيرتها زرقاء تلتمع أمام أعيننا التي فاضت بالدمع ، قال نائل عطاوي ؛ صديقي : أشم رائحة بيتنا يا جميلة من هنا ، أتصدقين ؟
ويحك صديقي، أي عذاب تعيشه هنا ؟
يسكن وائل بالأغوار (الشونة الشمالية) على مرمى خطوات من حطين وطبرية !
« تعودت يا صديقتي ، تعودت الفقد وتبعاته وشجونه ، وبقيت الرائحة تلازمني حتى العودة » ، يقول والدمعة سبحة
كرت حباتها مرة واحدة .
«انظروا - يقول وائل من بين دموعه- تلك المستوطنة البغيظة البارزة في حطين؛ بلدة أمي، والشارع يقسم البلدة
لقسمين متكافئين ، أما التي تعلو بعيداً لجهة الجنوب فهي صفد ».
كان الجولان برائحة بياراته ومزروعاته ومياهه يظللنا من أعلى ويرمقنا بانكسار .
لذنا بأم قيس؛ «جدارا «، وحضر شاعرها الكبير وقرأنا ما كتبه :
« أيّها الإلهُ السماويُّ ، ويا تراب جادارا المقدسة ، ارفعه عالياً ، فإنْ كنتَ عربياً فلك مني تحية ، وإنْ كنتَ فينيقياً
فلتعشْ يا سيدي ، وإنْ كنتَ يونانياً فأتمنى لك الصحة ؛ وأمَّا إنْتَ فأجبْ على التحيةِ بمثلِها » .
كما ألف هذه العبارة لتكون على قبره، وبها يخاطب من يمر على مقربة منه :
«أيها المارّ من هنا، إليك أقول :
كما أنتَ الآن كنتُ أنا !
وكما أنا الآن ستكونُ أنت!
فتمتع إذاً بالحياةِ لأنكَ فانٍ ».
(فليوديموس، PHILODEMUS)
وتقع أم قيس على بعد 20 كم شمال مدينة إربد، وهي كبرى مدن لواء بني كنانة في محافظة إربد، فوق مرتفع
يعلو 364 متراً عن سطح البحر، يحدها من الشمال ويفصلها عن هضبة الجولان نهر اليرموك، ومن الجنوب وادي
العرب الممتد من إربد حتى الشونة الشمالية غرباً، ومن الغرب بحيرة طبريا، إذ ينحدر سهل أم قيس تدريجياً إلى بداية
نهر الأردن عند مخرجه من بحيرة طبريا.
لنهبط نزولاً عند الحمة الأردنية السورية، ثم إلى نهر اليرموك، وهناك هفا القلب وبكت العين، أمام ضوء التاريخ وبؤس
الجغرافيا الحزينة ..
عن الراي .. جميلة عمايرة
المفضلات