باب الذبائح
لا يحل شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة ، لقول الله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم . إلا السمك وما شبهه مما لا يعيش إلا في الماء ، فإنه يباح بغير ذكاة ، وإن طفا ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر : هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته والجراد ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : أحل لنا ميتتان ودمان ، السمك والجراد والكبد والطحال ولأن ذكاتهما في العادة لا تمكن ، فسقط اعتبارها ، وما يعيش من البحري في البر لا يحل إلا بالذكاة ، لأنه مقدور على ذبحه إلا السرطان فإنه لا ذكاة له ، فأشبه الجراد [ وقال القاضي : لا يباح بغير ذكاة ] . وعن أحمد رضي الله عنه : أن الجراد لا يباح إلا أن يموت بسبب ، كتغريقه وطبخه ، والأول المذهب . ولو وجد سمكة في بكن أخرى ، أو في حوصلة طائر أو جراد أو حباً ، أو وجد الحب في روث بعير ، حل ، لأنه في محل طاهر ، ولا ذكاة له ، فأشبه ما مات في الماء ، وعنه : ما أكل مرة لا يؤكل ثانية ، لأنه رجيع ، فيكون مستخبثاً . ولو صاد الوثني حوتاً ، حل ، وعنه : لا يحل والأول أصح لأنه لا ذكاة له ، فأشبه ما لو أخذ ميتاً .
فصل :
وللذكاة أربعة شروط :
أهلية المذكي ، بأن يكون مسلماً أو كتابياً أو عاقلاً ، لقول الله تعالى : إلا ما ذكيتم وقول سبحانه : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم . يعني : ذبائحهم . ولا تحل ذكاة وثني ولا مجوسي ، ولا مرتد ، وإن تدين بدين أهل الكتاب ، لأنه لم يثبت له حكم أهل الكتاب ، ومفهوم الآية تحريم ذبائحهم من سواهم ، وفي نصارى بني تغلب روايتان :
أصحهما : حل ذبائحهم ، لعموم الآية .
والثانية : تحريمها ، لأن ذلك يروى عن علي رضي الله عنه . قال أصحابنا : ولا تحل ذبيحة من أحد أبويه وثني أو مجوسي ، لأنه اجتمع فيه ما يقضي الحظر والإباحة ، فغلب الحظر . وإن ذبح اليهودي ما حرم عليهم ، وهو كل ذي ظفر .
قال قتادة : هو الإبل والنعام والبط ، وما ليس بمشقوق الأصابع ، أو ذبح بقرة أو شاة ، لم يحرم علينا منه شيء في ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه ، واختيار ابن حامد ، لأنه من أهل الذكاة ذبح ما يحل لنا فأشبه المسلم .
واختار أبو الحسن التميمي أنه يحرم علينا ما يحرم عليه من الشحم ، وذي الظفر ، لأنه لم يبح لذابحه ، فلم يبح لغيره كالدم ، ويعتبر العقل ، فلا تحل زكاة مجنون ، ولا سكران ولا طفل غير عاقل ، لأنه أمر يعتبر له العقل والدين ، فاعتبر له العقل كالغسل ، وكذلك لو رمى هدفاً فذبح صيداً ، لم يحل . ويصح من العدل والفاسق ، والذكر والأنثى ، والصبي العاقل والأعمى ، لما روى كعب بن مالك أن جارية له كانت ترعى غنماً بسلع ، فأصيب منها شاة ، فأدركتها فذكتها بحجر ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها . رواه البخاري . وقال ابن عباس : من ذبح من ذكر وأنثى وصغير وكبير ، وذكر اسم الله عليه فكل .
فصل : الشرط الثاني : الآلة وهو أن يذبح بمحدد ، أي شيء كان من حديد أو حجر أو خشب أو قصب إلا السن والظفر ، فإنه لا يباح الذبح بهما ، لما روى رافع بن خديج قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه ، فكلوا ليس السن والظفر ، وسأخبركم عن ذلك ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة متفق عليه . فإن ذبح بعظم غير السن ، أبيح في ظاهر كلامه ، لدخوله في عموم اللفظ . وعنه : لا يباح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل تحريم الذبح بالسن ، لكونه عظماً . ويستحب تحديد الآلة ، لما روى شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإن قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته رواه مسلم .
فصل :
الشرط الثالث : أن يسمي الله ، لقول الله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه . وحديث رافع ، فإن تركها عمداً ، لم تحل ذبيحته ، وإن تركها سهواً ، حلت لما روى راشد بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذبيحة المسلم حلال ، وإن لم يسم الله تعالى إذا لم يعتمد أخرجه سعيد .
وعنه : لا تسقط التسمية في عمد ، ولا سهو للآية والخبر ، وعنه : لا تجب في الحالين ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا : يا رسول الله إن قوماً من الأعراب يأتونا باللحم ، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال : سموا أنتم وكلوا رواه البخاري والمذهب الأول .
وإن شك في تسمية الذابح ، حل لحديث عائشة ، ولأن حال المسلم تحمل على الصحة ، كالذبح في المحل .
والتسمية : قول بسم الله ، وإن كان بغير العربية ، وموضعها عند الذبح ، يجوز تقديمها عليه بالزمن اليسير . وإن سمى على شاة ، وذبح أخرى ، لم تبح ، لأنه لم يذكر اسم الله عليها . وإن سمى على قطيع وذبح منه شاة ، لم تبح ، وإن سمى على شاة ، ثم ألقى السكين وأخذ أخرى ، أو تحدث ثم ذبحها ، حلت ، لأنه سمى عليها . وتقوم إشارة الأخرس مقام تسميته ، كسائر ما يعتبر فيه النطق .
فصل :
الشرط الرابع : المحل ، وهو الحلق واللبة ، لما روي عن عمر رضي الله عنه ، أنه نادى النحر في اللبة والحلق لمن قدر . أخرجه سعيد . وروي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ويشترط قطع الحلقوم ، وهما مجرى الطعام والنفس .
وعنه : يشترط فري الودجين ، أو أحدهما ، وهما عرقان محيطان بالحلقوم ، لما روى أبو هريرة قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان )) وهي التي تذبح فيقطع الجلد ، ولا تفرى الأوداج ، ثم تترك حتى تموت . رواه أبو داود .
والأول أولى ، لأنه قطع لا تبقى الحياة معه في محل الذبح ، وإن قطع الأوداج وحدها ، فينبغي أن تحل استدلالاً بالحديث والمعنى ، والأولى قطع الجميع ، لأنه أوحى وأبلغ من سيلان الدم وتنظيف اللحم منه .
فصل :
والسنة نحر الإبل قائمة ، معقولة يدها اليسرى ، لقول الله تعالى : فاذكروا اسم الله عليها صواف ومر ابن عمر على رجل قد أناخ بدنته لينحرها ، فقال : ابعثها قياماً مقيدة. سنة محمد صلى الله عليه وسلم . متفق عليه . ثم يجؤها بالحربة من الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ، لقول الله تعالى : فصل لربك وانحر ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بدنة . ويذبح سائر الحيوان ، لقول اله تعالى : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة . وذبح النبي صلى الله عليه وسلم الكبشين الذين ضحى بهما . فإن ذبح ما نحر ، أو نحر ما يذبح ، جاز ، لأنه لم يتجاوز محل الذبح ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ويستحب توجيه الذبيحة إلى القبلة ، لأن ابن عمر رضي الله عنه كان يستحب ذلك ، ولأنها أولى الجهات بالاستقبال .
فصل :
فإن ذبحها من قفاها ، فأتت السكين على موضع ذبحها ، وفيها حياة مستقرة حلت ، لأنها ماتت بالذبح ، وكذلك ما جرح من غير مذبحه . والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، وما أكل السبع والمريضة ما أدرك ذكاتها ، وفيها حياة مستقرة حلت ، لقول الله تعالى : إلا ما ذكيتم . ولحديث جارية كعب : (( إذا أصيبت منها شاة ، فأدركتها فذكتها بحجر ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها )) وما لم يبق فيه إلا مثل حركة المذبوح لا يباح ، لأنه صار في حكم الميت ، وكذلك لو ذبحها بعد ذبح الوثني لها لم تبح .
فصل :
ويكره أن يبين الرأس بالذبح ، وقطع عضو مما ذكى ، أو سلخه حتى تزهق نفسه ، لأن عمر رضي الله عنه قال : لا تجعلوا الأنفس حتى تزهق ولا يحرم المقطوع ، لأن إبانته حصلت بعد ذبحها وحلها . ولو ذبحها ، فسقطت في ماء ، أو تردت تردياً يقتلها مثله ، فقال أكثر أصحابنا : لا تحرم لما ذكرنا .
وقال الخرقي : تحرم وهو المنصوص عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم : فإن وقعت في الماء فلا تأكل ولأن ذلك يعين على زهوق نفسها ، فيحصل بسبب مبيح ومحرم.
فصل :
وإذا ذبح حاملاً ، فخرج جنينها ميتاً ، أو فيه حركة كحركة المذبوح ، أبيح ، لما روى أبو سعيد قال : قيل يا رسول الله : إن أحدنا ينحر الناقة ، ويذبح البقرة والشاة . فيجد في بطنها الجنين ، أيأكله أم يلقيه ؟ قال : كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه رواه أبو داود ، ولأنه متصل بها يتغذى بغذائها فكانت ذكاتها ذكاة له ، كسائر أجزائها . ويستحب أن يذبحه ليخرج دمه الذي في بطنه ، نص عليه . وإن خرج وفيه حياة مستقرة ، لم يبح إلا بالذكاة ، لأنه مستقل بحياته ، فأشبه ما ولدته قبل ذبحها .
فصل :
وإذا ند بعيره أو غيره، فلم يقدر عليه ، صار حكمه حكم الصيد ، لما روى رافع بن خديج قال : كنا مع النبي في غزاة ، فأصاب القوم غنماً وإبلاً ، فند بعير من الإبل ، فرماه رجل بسهم ، فحبسه الله به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش ، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا متفق عليه . ولأنه تعذر ذكاته في الحلق ، فأشبه الصيد . ولو تردى في بئر ، فلم يقدر على ذبحه ، فجرحه في أي موضع قدر عليه من جسده ، أبيح لما ذكرناه إلا أن يكون رأسه في الماء ، أو في شيء يموت به غير الذبح ، فلا يباح لأننا لا نعلم أن الذبح قتله .
كتاب الكافي
في فقه الإمام أحمد بن حنبل
المفضلات