*** الإعتدال العبادي والموازنة مع متطلبات الحياة .... !!! ***
الإسلام دين الحياة كلّها ، وليس دين العبادات فقط . والعبادات في الاسلام لا تطلب لذاتها ، بل لغاية أكبر وفائدة أعظم ، ولذا لم يركّز الاسلام على الكثرة في العبادة ، بل على النوعية فيها .
فقد تجد شاباً مشغولاً بالعبادة أغلب الوقت ، يفرغ من صلاة واجبة فينشغل بأخرى مستحبّة ، ويجهد نفسه بالصوم المستحب حتى ليصرفه ذلك عن اهتماماته وشؤونه ومسؤولياته الأخرى .
ولقد لفت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) النظر إلى ذلك ، حينما رأى شاباً منشغلاً في العبادة ومنقطعاً يستكثر منها ، فسأل عمّن يعوله ، أي مَنْ يتولى شؤون حياته ومعيشته ، فقيل له : أخوه ، فقال : أخوه أعبد منه ! الأمر الذي يدلل على اهتمام الاسلام بالعمل ونظرته الواسعة إلى العبادة .
ولذا فإنّ حالة الشاب المستغرق في عباداته تمثل اختلالاً في التوازن ، فالصلاة عمود الدين ، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجد فيها لذّته الروحية ، وكان يصلّي شكراً لله على نِعمه ، لكنّ صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تجمّد نشاط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فلقد كان يمارس مهامّ النبوّة في إدارة الدولة والمجتمع ، والمشاركة في جهاد العدو ، وتعليم الناس وتربيتهم ، وتفقد مرضاهم وقضاء حوائجهم ، والإستمتاع بالجلسات العائلية الحميمة حتى أثر عنه قوله : «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» .
ولقد طلب الله سبحانه وتعالى من المسلمين أن يتوجهوا إلى صلاة الجمعة في كلّ جمعة ، وذلك قوله : (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع )() لكنّه لم يرد لهم أن يقيموا في المساجد طوال نهار الجمعة ، ويتركوا الرزق في ذلك اليوم ، ولذا قال : (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلّكم تفلحون )() .
إنّ الشاب العابد المتهجد ، والفتاة القانتة المتبتلة ، قد يتصوران أنّ العبادة هي استقبال القبلة ، والجلوس على سجادة الصلاة لأطول
وقت ممكن ، وأداء النوافل والأدعية والأذكار والتسبيحات ، وتلاوة أكبر عدد من سور القرآن ، وهذا فهم غير دقيق للعبادة .
فالعبادة هي كلّ عمل يتقرّب به الانسان إلى خالقه وربّه ، حتى ولو لم يكن فريضة عبادية معروفة .
فالتحيّة ، وقضاء حاجات الأهل والأصدقاء ، والتعاون على مشروع عمل شبابي يهدف إلى إنماء قابلياتهم ، أو يزيد في توعيتهم الدينية ، أو يعمق من عرى المحبّة والتآلف والتآخي فيما بينهم ، والإنجاز الدراسي لتنمية المواهب والمدارك والمعلومات ، ورفع الأذى عن طريق المسلمين ، وكلّ ما يسبب الإزعاج لهم ، والإستماع إلى المواعظ ، أو إلى المحاضرات العلمية والثقافية والتربوية .. كل ذلك عبادة ، إذا كنت قاصداً بها أن تبني شخصيتك لتكون إنساناً نافعاً مباركاً أينما كنت ، ألسنا نقول : «خير الناس مَنْ نفع الناس» .
وإذن ، فأنت في صلاة دائمة قائمة متصلة ، ما دمت في عمل لله فيه رضا ولك وللأمّة فيه خير وصلاح .
لقد اشتكت بعض نساء المسلمين إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) انشغال أزواجهنّ بالعبادة ـ صياماً وقياماً ـ فاستدعاهم ليقول لهم إنّه وهو الرسول لم يفعل ذلك ، وإنّما يوازن بين العبادة وبين متطلبات الحياة ، حيث يقول : «أما إنِّي أصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأضحك وابكي فمن رغب عن منهاجي وسنّتي فليس منِّي» .
إنّ الرفق والمداراة والعطف كما هي مطلوبة مع الآخرين ، مطلوبة مع النفس أيضاً ، ولذلك فإنّ أحد معاني كلمة (ظلمتُ نفسي) هو إنّني قد تجاوزت عليها بالجور ، وتحميلها فوق طاقتها ، وحرمانها مما أحلّه الله ، والتضييق عليها بما وسّع الله ، وهذا هو الخروج على حدّ الإعتدال والتوازن .
ولا يخفى ، أنّ إثقال النفس بالعبادة في مرحلة الفتوة والشباب قد يؤدي ـ في مرحلة لاحقة ـ إلى النفور من العبادة والضيق بها وربّما الانصراف عنها .
يقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : «اجتهدتُ في العبادة وأنا شاب ، فقال لي أبي : يا بُنيَّ ! دونك ما أراك تصنع ، فإنّ الله عزّ وجلّ إذا أحبّ عبداً رضي منه باليسير» .
واليسر والتيسير منهج اسلامي عام ، فما من شيء لا يقدر الانسان على فعله كاملاً ، إلاّ وقد أباح الله تعالى له أن يؤتي منه ما يستطيع ، وقوله تعالى : (فاقرأوا ما تيسّر من القرآن )() فيه مراعاة لظرف الانسان ، وقوله تعالى بالنسبة لأضحية الحاج : (فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي )() ، نظرة إلهية لطيفة للتخفيف من العبء المالي على الحاج ، ولذا فقد طبع سبحانه وتعالى الدين بهذا الطابع : (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )() ، (وما جعل عليكم في الدين من حرج )() .
ومن هذا المنطلق ، فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما تلقّى هذا الوحي وهذه الرسالة السمحاء ، قال : «جئت بالرسالة السمحة» وما صفة (الحنيفية) التي اتسم بها الاسلام إلاّ صفة الإعتدال والتوازن ، ولقد وضع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك كلّه في قواعد عملية ، حيث قال :
«إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تكرّهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى» .
أي أنّ مثل الشاب أو الفتاة اللذين يرهقان نفسيهما بالعبادة كمثل راكب على ظهر دابّة، وقد أضاع الطريق ، فلا هو وصل إلى هدفه الذي يريد ، ولا دابته استطاعت تحمّل العناء الشديد . وهذا هو معنى الحديث الشريف : «لا تبغّض إلى نفسك عبادة الله» ، بتكليفها فوق وسعها ، لأ نّها إذا أبغضت العبادة قصّرت في أدائها أو عافتها .
ووضع (صلى الله عليه وآله وسلم) قاعدة أخرى للتوازن ، حيث قال مخاطباً المسلمين : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما تستطيعون» أي لا تحمّلوا أنفسكم من العبادات والفرائض والنوافل ما هو خارج القدرة والاستطاعة لأ نّه (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها )() .
ولكنّ ذلك لا يعني انّه ليس هناك حالات وأوقات (شهيّة مفتوحة) للعبادة والإستزادة من المستحبّات والأعمال ، حيث تزداد الرغبة في توثيق العلاقة بالله سبحانه وتعالى ، وهي حالات وأوقات يجب استثمارها لأنّ النفس حينئذ تكون مهيّأة لاستقبال ألطاف الله ومناجاته ، كما هي الأرض العطشى حينما يتساقط عليها المطر فتهتزّ ، وتربو ، وتنبت من كلّ زوج بهيج .
ولذا ورد التنبيه في الحديث الشريف إلى ضرورة مراعاة هذا التنوع أو التفاوت في الحالة النفسية : «للقلوب إقبال وإدبار ، فإن أقبلت فاحملوها على النوافل ـ أي المستحبات ـ ، وإن أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض ـ أي الواجبات ـ » .
أمّا إذا أجهد الشاب أو الفتاة نفسيهما بالعبادة دون مراعاة هذا الجانب ، فالنتيجة ستكون سلبية : إمّا فتور في العبادة ، أو نفور منها ،
وفي الحديث : «إنّ القلب إذا أكره عمي» . وفيه أيضاً : «روّحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة» ، وهل التوازن غير ذلك ؟
نخلص من ذلك كلّه ، إلى أنّ الحالة الوسطية ، أو التوازن العبادي هي الحالة السليمة والوجيهة ، ولذا جاء في الحديث : «خير الأعمال ما داوم عليه العبد وإن قلّ» ، وجاء : «قليل من عمل مدوم عليه خير من عمل كثير مملول منه» .
وفي وصيّة الإمام علي (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام) : «واقتصد يا بُنيَّ في معيشتك ، واقتصد في عبادتك ، وعليك فيها بالأمر الدائم الذي تطيقه» .
و (القصد) سواء في العبادة أو في المعيشة ، أو في أي شيء آخر هو الإعتدال والتوازن .
المصدر
مجلة البلاغ
المفضلات