ظلت تتجاهل الصوت المنبعث من ركن ما، يشبه الصوت صرير الأبواب، لكنه يصل إلى قوقعة أذنيها مثل قهقهة ساخرة، تزيد من جرعة الغضب في مخارج حروفها.
كان الحارس يرتجف أمام عينيها، وصخب صوتها يطلق في جمجمته آلاف العفاريت. ليست من نوع عفاريت الفانوس التي تحقق الأمنيات.
استجمع الحارس قوته، وقال بأدب مدافعاً عن نفسه: "عندما تفقدت المكان صباحا كان قفل الباب مكسورا. ورأيت الرماد. أُشعلت نار في الغرفة، حطبها الكتب التي كانت تملأ الرفوف". كان الحارس يتكلم بسرعة، يحاول أن يطغى بصوته على صوت صرير الباب الذي يشبه القهقهة.
"من المفترض أن تبقى طوال الليل في حراسة المكان. هذا العبث، كسر الأقفال، وحرق الكتب، وإشتعال النار..". لم تكمل. أثار إحساس الست هدى قهقهة متواصلة للباب الخشبي الضخم. أصمت أذنيها. شعرت فجأة بتوتر يتصاعد إلى تلافيف دماغها. كادت تصرخ بالباب أن يتوقف وأحجمت، ولتتخلص مما عدته هذياناً، استدارت وبسرعة، رمت بنفسها على كرسي قريب. بدا صوتها أقرب إلى الفحيح، متخليا عن تسلطه السابق. تناولت قلما وورقة، كتبت موجزا بواقعة إحراق الكتب وكسر باب الغرفة. كادت تضيف حدث القهقهة المتوالية للباب الخشبي، وامتنعت في اللحظة الأخيرة.
طوت الورقة وحدثت نفسها: "كل شيء يدعو للجنون هذا الصباح". صرفت الحارس مهددة إياه بتحميله مسؤولية ما حدث.
فارق الحارس الغرفة راكضا. ولما وصل غرفته في أقصى الحديقة، هز رأسه ليتأكد خلو سمعه من قهقهة الباب الخشبي. ولما أحس بسكون الصباح الصيفي الجميل ولفحة نسائمه الصيفية الرائقة، ملأ صدره بهواء نقي. وصرف عقله عن التفكير بعواقب أي شيء على الإطلاق.
خلت الغرفة إلا من قهقهات الباب والست هدى، التي قادها عقلها إلى التحقق مما يحدث. بحثت عن آلة تسجيل قد يكون أحد أخفاها في مكان ما بهدف الإزعاج والسخرية، لكنها لم تجد شيئاً. تحققت من أن الحاسب مقفل. بحثت في حقيبتها وتأكدت أن صوت الصرير الذي يشبه القهقهه كثيرا، لا يتأتى من هاتف جوال. أخيراً ظنت أنه هذيان بدأ يقلق أمنها النفسي، وما جعلها تعتقد ذلك بقوة، أن الحارس طوال فترة تعنيفها له لم يشر إلى ذلك. وفسرت سرعة خروجه من الغرفة، رغبته الأكيدة بالتخلص من الموقف العسير.
مدت يدها لارتشاف بعض الماء، فكرت: "الماء يعيد إلي بعض التوازن". ومع الجرعة الأولى صارت القهقهة واضحة، ليست صريراً بالتأكيد. اندلق الكأس من يدها، انتثر متهشماً.
زادت سرعة تنفسها، امتدت يد معروقة تنفض آثار البلل عن ملابسها. اكتمل الكابوس عندما اقتحم مسامعها صوت عميق يشبه تماما صوت الوحوش في أفلام الكرتون: "أتبحثين عن الحقيقة؟". تلفتت الست هدى حولها لتعرف. ولكنها لم تعرف شيئا. ازدادت حيرتها.
قال الصوت بجرأة: "أنا الباب. سأروي لك سر الحكاية". ارتبكت، وقفت، أشارت إلى كنبة جلدية كأنها تدعو شخصاً ما للجلوس. ضحك الباب ضحكة شيخ متفهم، وقال: "أنا باب لا أجلس. مهمتي أن أظل واقفا. أصْلي من شجرة. والأشجار تموت واقفة".
تخلت السيدة هدى عن رعبها. وقامت لتفاجئ الشخص الذي يختبئ خلف الباب يريد ممازحتها، لكن.. ليس هناك من أحد.
عادت لتجلس خلف المكتب. أسندت رأسها. ورمقت الباب وقالت للاشيء: "تكلم".
سمعت تنهيدة. ثم ابتدأ حديث:
- 1الليلة كانت باردة. واللص الذي يفتح الأبواب بمهارة، ويتسلل بخفة قط، أحس فجأة بمغص منعه من التحكم بأدواته الدقيقة، فكسر القفل بحركة واحدة من يده الضخمة. أزاحني جانباً، وجلس يبحث عن مصدر دفء، ثم دلف إلى المطبخ. عاد إلى هنا. لم أعرف ماذا فعل، ولكنني أتوقع أنه كان يبحث عن كأس شاي ساخن.
دار في الغرفة، سمعت اصطكاك أسنانه، عرفت أنه يشعر بالبرد الشديد ومن يديه اللتين يلفهما حول معدته عرفت أنه ما يزال يشعر بالألم. أخرج من جيبه ولاعة، أشعل نورا لثانيتين، قرب يده الأخرى فلسعته النار وانطفأت . اطلق شتيمة، مبعدا يده الملسوعة بسرعة، فارتطمت بخزانة الكتب، وأطلق صراخه متألماً.
وفي حركة هستيرية، أوقع رفَّ كتب بأكمله على أرض الغرفة. وقذف بعضه بقدمه. من ثم رأيت اللص يجلس بجانب الكتب وقد نسي ألمه. بدأ يقرأ، يفتح الكتب يقلبها يتأملها. يقرأ نصف صفحة، ويطلقها من يده هازا رأسه بأسف، كان يردد كلمتين: "كتابة رديئة.. الحظُّ هذه الليلة لم يخدمني حتى بكتاب جيد". وقف اللص مستندا عليَّ. أخرج بقية الكتب كتابا تلو الآخر. طفق يتصفح الواحد منها لدقيقتين، ثم يلقي به نحو الأرض بعصبية. صارت الكتب كومة هائلة. دار اللص حولها متأملا. عدت أسمع صوت اصطكاك أسنانه برداً. لمحته يعيد الكرَّة، يشعل قداحة الغاز. لكنه هذه المرة لم يحاول تدفئة نفسه، بل قربها من أحد الكتب. بصعوبة أمسكت الورقة بخيط اللهب. قال بصبر نافد: "هذه المؤلفات الردئية، لا تغري أحداً، حتى النار التي تأكل الأخضر واليابس",
بصبر حاول اللص مرات عدة، حتى اشتعلت الأوراق. لكن النار ظلت باهتة دون دفء يمنحه اصطلاء حقيقيا في ذلك القر.
تأبدت اللحظة وظلت الست هدى تحملق في كل شيء وقد تكلم الباب. والباب إن تكلم فلديه الكثير.
المفضلات