منية و روح / قصة:روح وقلم
انطلق الباص من باب العامود في القدس ؛ وانعطف يسارا باتجاه شارع صلاح الدين؛ ومن هناك اخذ اول الطريق المتفرّع عن الشارع وتوجّه الى دير ياسين ومنها خرج الى الطريق الرئيسي مرورا ببيت نتّيف او ما تبقى منها.
بقايا اليات جيوش الانقاذ العربية التي خرجت تحمل هزيمتها المؤزّرة أبان النكبة مدهونة باللون البني الغامق ومصفوفة بعناية على جانبيّ الطريق بين الاشجار ؛القرى البسيطة التي كانت متناثرة هنا وهناك اختفت وظهرت مكانها ابنية شاهقة وتجمعات سكنية ضخمة اشبه بالصناديق . لم يمضي وقت طويل حتى وصلت الحافلة الى تفرّع يافا تل ابيب حيث ينقسم الطريق بإتجاهين؛ انحرفت الحافلة يسارا وأكملت طريقها ..بعد ربع ساعة مسير أطلّت من بعيد...يافا...مدينتي الحزينة ؛ يالبهاءك وانتي تعانقين الشروق وتتوسدين خاصرة البحر كأروع ما تكزن الحورية الاسطورية. مراكب الصيادين تلمع على سطح الماء وتتحرك كنقطةٍ تائهةٍ في فراغ ٍ لا نهاية له؛..ثوان ٍ مرت وعيناي لا تكلان عن البحث والتحديق؛...هذا ميدان الساعة؛ وهناك في الأفق مسجد حسن بيك الكبيروتلك مأذنته ما زالت ومنذ البدء تنتصب شامخة وتؤدي لها السلام؛..ولما لا؟؟..فهذه يافا ومن لا يعرفها فليقرأ كتب التاريخ ؛ ليقرأ عن حجارتها التي تقلدها كل العابرين بعد أن صنعوا منها اوسمة شرف؛ ليقرأ عن البحر الذي حط رحاله على اعتابها ذات يوم وأقسم أن لا يغادر بعدها أبداً؛ ليقرأ عن المنارة التي ترحل اليها الامواج العاتية من أعالي البحار لتنال شرف التحطم على صخورها...؛...؛
تقوقعت على نفسي وقد اجتاحتني الذكرى دفعة ً واحدة ؛ فلم استطع منها فكاكا؛ صحوت من افكاري على صوت السائق يردد بالعبرية((حي أشكالوت))؛...آه يا إبن الكلب؛ بكل هذه البساطة؛ من ((كرم الزيتون))الى ((حي أشكالوت؟؟!!))..؛أنتفضت واقفة وطلبت النزول وأنا أخفي رغبة عارمة تملكتني للقبض على ذلك السائق وأعطاءه درسا في التاريخ وعن أنه من العيب كل العيب أن نطمس أسما من الوجود تمتد جذوره لأكثر من ألف سنةونستبدله ب((حي أشكالوت)) ولا أدري إن كان يلفظها صحيحة؛ كبتّ نفسي مرغمة وأبتلعت ريقا كاد ينطلق في وجهه؛..نزلت وأنا أتعثر بحبات الغبار الصغيرة وأردد في نفسي بقهر ٍ أخرسْ:- حي أشكالوت يا أولاد الكلاب وكل شيءٍ هنا ينطق بالعربية ويفوح برائحة فلسطين التي عرفناها من كتب المدارس وأحاديث الأباء والأمهات؟!!.
تحركت أقدامي دون وعي ٍ منّي ؛ فقدت السيطرة على كل جوارحي لدقائق ٍ عدة؛ خلتني خلالها أتحرك بقوة لا إرادة لي عليهاولا أدري ما هي وكأنما شيء يجتذبني الى الامام ويشدني اليه شدا حتى رأيته يتألق رخامه الابيض تحت شمس الظهيرة..إنه هو بيتنا؛ او ما كان يسمّى ببيتنا ذات يوم..وتلك هي غايتي..الزيتونات ...حضنتها بعيني وتمنيت لو أن بي قوة خرافية لأجتاز السور العالي وأعانقها مجتمعة ولأمت بعد ذلك؛ تقدمت خطوتين ؛ البوابة العالية نفسها؛ لم تتغير؛ غير أن الطلاء تحول من أبيض نقي الى رمادي؛ربما بفعل الزمن؛..هناك بعض الأعشاب البرية نبتت على الارض أسفل السكة التي تنزلق عليها البوابة إذا ما دفعت؛ هذا يعني أنها لم تفتح منذ زمن؛ هل البيت مهجور؟؟ تقدمت قليلا؛ الحديقة المترامية الأطراف خالية من أي شيء وتبدو كأن لم تدسها قدم إنسان منذ أعوام ؛ فالأعشاب الجافة منتشرة في كل أرجاء الحديقة ؛ والممرات المؤدية الى مدخل البيت الكبير تكاد تختفي تحت وطأة الاتربة وبقايا الاوراق المتحللة؛ خطوت وأنا أوهم نفسي أن الرجفة التي اعترتني مردّها التعب من طول السفر ؛ البيت مهجور بلا شك؛ هذا ما يبدو فالبيوت المهجورة هنا تحتفظ لنفسها بقدسية خاصة ؛إذ توحي لكل من يراها أن القدم الغريبة لم تدسها وأنها ما فتأت تنتظر اليد التي أقفلتها قبل عشرين عاما؛..هل بدأت أهذي؟!ربما!...يالله عشرون عاما مرت كأنها البارحة وما أشبه اليوم بالبارحة ؛ اليوم نعود الى بلادنا ..نعود اليها سواح وزوار بعد أن كنا أصحاب حق وأصحاب أرض...؛ أي عدل ٍ هذا يا رب ؟؟!!...استجمعت قواي واستنهضت ما خدر منها وتقدمت متلصصة ؛ لم أحفل بشيء ؛ على كل حال هذه لحظة من لحظات الشجاعة التي نادرا جدا ما تأتيني ولن أفوتها..؛ كانت قفزات ثلاث وكنت بعدها في أرض الحديقة ؛ ما أن وطئت الأرض حتى أنهمرت عيناي فجأة؛...؛ تلك القفزة الثلاثية وبنت الخمسة عشر ربيعا وسور الحديقة والهروب من المدرسة وواحد وعشرون عاما ؛كلها انقضت عليّ فجأة كما تنقض الفجيعة على ثكلى ؛ فقدت الاحساس بكياني للحظات ؛ فراوحت مكاني قليلا ؛ حاولت جاهدة لملمة ما تبقى منّي...بعد جهد استنزفني حتى الرمق جمعت اشلائي وخطوت الخطوة الاولى واقتربت...؛لمستها بحنين من فجع بكل احبائه دفعة ً واحدة ؛إنحنى عليّ غصنان متجاوران...هل أحلم؟! هل جننت ؟! لا ما زلت احتفظ بشيء من عقلي؛ أقسم على ذلك؛...تدانى الغصن الاول حتى كاد يلامس خاصرتي والتف الثاني من حولي حتى حضنني تماما وابتدأ عناق طويل ارتميت على اثره اسفل شجرتي الحبيبة وانا اشهق من شدة البكاء؛...غفوت...أي أمان ٍ هذا الذي شعرت به حتى غلبني النعاس؛ لا ادري كم من الوقت مر؛ نهضت واعتدلت جالسة؛...الحديقة كما اعرفها لم يتغير فيها شيء؛ ثلاثة اشجار كينا لم تفقد نضرتها ؛ خمسة اشجار سرو ٍ تكاد تطاول السماء ؛ وعشرة زيتونات متجاورة بعدد اخواتي واخواني ؛ كان أبي يغرسها واحدة لكل ٍ منّا في اليوم الاول لميلاده؛ أكبرها ميتة ومتيبسة تماماً...؛ رحمك الله يا أخي ..ترى أما زالت أبراج قلعة الشقيف تذكر ذلك المغوار الذي كان يقف على قمة الدنيا وحيدا ويناجزالعدو من أعلى برج ٍ فيها وقد شرع صدره للرياح و..الرماح..رحمك الله يا معلمي وأخي..!!.
...زيتونتي ...خضراء مثل عينيك ؛ هادئة في طبعك ولها قلبٌ أبيض ككل القلوب الجميلة ..؛ عبارات حفرتها فتاةٌ مراهقة على جذع الزيتونة((زيتونتها))وحفرت أسفلها قلبٌ اخترقه سهم بحرفيّ((م)) و((ر))؛ أين أنت يا من أحببت؟! أي بلاد ٍ حملتك وأي بلاد ٍ حطتك؟ ترى أما زلت تذكر تلك الطفلة الصغيرة الكبيرة؟ أما زلت تذكر (منية) وجرأتها ؟ أنا ما زلت أتذكر ومحال أن أنسى ؛ أتذكر الدهشة التي تعقد لسان ابن الخامسة والعشرين عندما تقول له طفلة في الثانية عشرة ...أنا أحبك...أي مجنونة أنا ...؛؛ لكن أي عظيم ٍ أنت حين جننت بك؛ قمة الروعة وأعظم ما في الوجود أن ترى الفتاة الطفلة العطف والحنان والاعجاب بها ينقلب الى حب ٍ جارف...حباً بكل ما تحمل الكلمات من معاني .. لا يبذله الا عاشق عظيم لأجمل أمرأة في الوجود وهذا ما كان يا حبيبي؛...؛..نسمة برد خريفية تزلزل الكيان والمكان هبت فجأة وخطفتني من بحر ذكرياتي الحبيبة؛ كم من الوقت مرّ؟! لقد انقضى النهار بأكمله ولم أشعر به...إذا سيحل الليل..تلفّتُ حولي بحذر ٍ هذه المرة؛ هل سأترك المكان بعد كل هذا وأغادر؟؟ّ!!أيُ جاحدةٍ أنا؟!! أأترك أهلي وأخواتي وأخواني هنا وأذهب؟ أأترك نفسي هنا وأذهب؟ وإن تركت كل هؤلاء أيطاوعني قلبي على ترك من أحب هنا مصلوبا على الشجرة؟!! تراءى لي خاطرٌ مفزعٌ أرعبني أول الأمر ؛ وبعد لحظة تفكير بدى لأمثالي منطقيا ؛ ماذا لو حفرتُ قبرا هنا وتمددت فيه حتى يوافيني الأجل؟؛ سأكون أسعد من على الأرض ؛أن أحصل على موطىء قدم ٍ أوارى فيه وأين؟؟ بأرض ٍ كانت تسمى ذات يوم ٍ بلادي وتحت شجرتي التي تقاسمت معها صرخات الولادة ؛ الخاطر المجنون بدى في اول امره شطحة رعناء اعتدت على مثلها كثيرا ؛ ولكن ما لبث ان صار يبدو لي مقبولا ثم انقلب من منطقي ٍ الى عادي ؛ وانتهى بأن لا بد منه ليكتمل عقد جنوني ؛ لا أدري أي زلزال ٍ حل بي... كيف ينتقل العقل فجأة من بحثه الدائب عن اسباب للتعلق بالحياة الى بحث لا يقل دأباً عن رغبة عارمة ٍ لإيجاد الموت؛ ليس هروبا ً من الحياة بمعنى الانتحار؛ بل هروب الى ذكريات لا فكاك منها ولا عودة اليها إلا بطريق ٍ واحد قد تكون الموت؛ ولماذا لا يكون الموت هو الطريق الى ما مضى من أيام...؛ قمت من فوري ورحت أحفر تحت الزيتونة بأظافري..كانت الاتربة تتباعد من تلقاء نفسها وكأنها تشكل قبراً لم يلبث أن أكتملت معالمه التي امتدت الى ما تحت جذور الزيتونة تماما...!!!!!
في ذلك المساء ابتدأ حديث أهل كرم الزيتون عن فتاة غريبة تسللت الى حديقة بيت مهجور ودخلت بين مجموعة من اشجار الزيتون ولم تخرج بعدها أبداً...!!!
روح وقلم/13-ديسمبر-2006
المفضلات