مقالات
…الألم
إنه لا يختار الوقت المناسب لانفجاره داخل تفاصيل أيامنا، هذا إذا افترضنا أن هناك وقتاً مناسباً للألم، وآخر للمعاناة، وثالثاً للحزن، ورابعاً للتبلد، وخامساً للفرح، وسادساً للامتلاء، إلى آخر قائمة المشاعر المتباينة…
الألم هذا الجسر الرابض بين متاهتين، والذي ينبغي علينا عبوره لتعميد إنسانيتنا، فلا أعتقد أن إنساناً بلغ سن الرشد ولم يبلغ رغم هذا إحدى مراحل الألم، أو مستوياته التي تختلف باختلاف مركز الانطلاق، ونوعية المسافرين، فحتى ونحن نسعى للتخلص من أحد أشكال الألم نتعرض للألم.
فالطفل ينفجر ببكاء الألم بمجرد أن يرى أحدهم وقد ارتدى مريولاً أبيض، دليل أن ذاكرته تختزن مشهد ألم ما مرتبط بهذا المريول، حتى نحن الكبار فإن كثيراً من الحقن أو الحبوب أو العلاجات الكيماوية وغيرها تسبب لنا آلاماً متراوحة المدى والحدود، والألم قد يكون فردياً، يتحصن به إنسان ما باحثاً عن خلاصه الذاتي من خلاله، وقد يكون جماعياً، تفرضه هواجس الوطن أو العرق أو الدين أو اللون، فنقول معاناة السود في جنوب إفريقيا، والمعاناة شكل من أشكال الألم، أو أنها توحد آلاف الصيحات والأنات والاستغاثات في لحظة إنسانية اكتشفت فيها هؤلاء الناس أنهم يتعرضون لانتهاك وتعذيب وجريمة واحدة فقط لأن جلودهم تحمل ذات اللون،أو نقول مثلاً معاناة الشعب الفلسطيني، فنشير بذلك إلى مجاميع آلام هذا الشعب على مرّ عشرات السنين. والألم قد يكون حاداً مؤقتاً، وقد يكون بطيئاً مزمناً، فيكون ثقيلاً ومرفوضاً ومتعباً في الحالة الأولى، ويصير هناك شكل من أشكال التعامل معه والتعود عليه والقبول به في الحالة الثانية. وهو مرتبط بالداء، وفي كثير من دكتاتوريات هذا العالم القاسي ارتبط الألم بالتعذيب، إضافةً لما نعرفه جميعاً من ارتباطه بالحوادث المختلفة من حروق وكسور وجروح بليغة وغيره، حيث تسبب الآلام الشديدة في بعض هذه الحالات الصدمة العصبية والتي قد تسبب الموت…
وحين كنّا صغاراً نتشاطر على أترابنا بطرفة أو مقولة أو فكرة ما، كنا نسأل بعضنا أيهما أقسى وأعمق الألم النفسي أم الألم الجسدي... وعن قمة الإزعاج وقمة الإحراج وقمة سوء الطالع، إلى آخر قائمة القمم، فقمة الألم عند صديقتي لمى هي رؤية القطط تعيش وسط الإهمال والجوع،كان هذا رأيها حين كُنا صغاراً، وكانت إجابة كل منا على هذه الأسئلة المحيرة تختلف وتتأثر بتجاربنا الخاصة… لكن قمة الألم حقاً، وكما تراها عقولنا التي تلوثت بخرائب نهاية القرن ومخاوف بداية قرن جديد، عقولنا التي ودعتها البراءة إلى غير رجعة، ترى أن قمة الألم ذلك الذي ينحفر عميقاً في قلب إنسان جرحته الثقة بإنسان ما، أو الإيمان بقضية ما،أو جرحه حبّ فلم يصدق أنّ جراح العملية التي تخترق طبقات الجلد وتشبكها بخيوط توزع آلامها على كل ذرّة في الجسم أصعب من جراحه.
هذا الألم الذي يظل يتناسل من صهيل الذاكرة، ومن قوافل الخذلان، وهو ألم محبوس مكتوم يتفاعل داخل خلايا النبض، ويتشكل داخل عوالم النسيان، يكون فيه المجروح أسير آلامه، لا تنفعه المسكنات، ولا تضمد جراحه كل خيوط الأرض، وربما نكون أكثر دقة لو وصفنا هذا النوع من الألم بأنه قاع الألم، حضيض الإنسانية التي بدأت تأكل أولادها، وإذا كان لا بدّ للألم من قمة وقاع، فإن قمته هي هذا الألم الذي يتفجر من صدر شاب أمطره الرصاص وهو يكابر الجراح وآلامها، ويمضي منتصب القامة ممشوق الفؤاد، نحو قمة التل الأخير على حدود الوطن، الذي سيصير بمجرد أن يزرع هذا محرراً من أطماع المتربصين، ومحرراً قبل كل شيء من أوهام الخنوع وأقراص الخذلان…
د. سلوى عمارين
المفضلات