الشيخ نوح القضاة: تواضع العلماء أمام غرور الدنيا
يوسف ربابعة *
في هذا الوقت أكتب عن الشيخ نوح القضاة وهو يرقد على سرير الشفاء في المدينة الطبية، ونحن في مثل هذا الحال نرجو له الشفاء، ونستذكر عالما جليلا واستثنائيا في الوقت ذاته، وربما لو كان عند غيرنا لاحتفلوا به ولكان مرجعا دينيا لا يقضى أمر من دونه، لكن بعض الأفذاذ تظلمهم الجغرافيا، ونحن في الأردن معروف عنا أننا لا نحتفي بالكبار، بل لا نحترم كبارنا، مع أن فينا من يستحق فوق ما يستحقه البقية ممن تضرب لهم أكباد الأبل، ولكن حسب شيخنا أن الذين يعرفونه يشهدون له بالزهد والورع والتواضع، وفوق ذلك الثبات على الحق وعدم المهادنة فيما يخص الدين والحق، ولذا نجده كلما شعر بشبهة حرام حتى لو كانت صغيرة ينسحب ويقول رأيه دون مواربة، والأمثلة على ذلك كثيرة، وهو في العادة لا يحب الصدام والمواجهة.
في كل المواقع التي تسلمها الشيخ كان مثالا للصدق والأمانة، فمنذ بدايات حياته العملية مفتيا في القوات المسلحة الأردنية العام 1972، وعندما تسلم قيادة الإفتاء عمل على أن يكون في كل وحدة عسكرية إماما مقيما، ويعود الفضل له في حفاظه على الاتزان في التدين وفي طرح القضايا الفقهية واحترام الرأي الآخر، مما شكل مدرسة حافظت على اتزان المجتمع بعيدا عن الغلو والتطرف، وكانت فتاواه ومواقفه تنم عن شخصية ثابتة لا تنحني أمام الظروف والإغراءات على كثرتها وبهرجتها، كما قام بتأسيس كلية الأمير الحسن للدراسات الإسلامية التي تخرج الأئمة الذين يوزعون على الوحدات العسكرية المختلفة.
وبعد أن حصل على رتبة لواء في القوات المسلحة، تم تعيينه قاضيا للقضاة إلا أنه لم يدم طويلا في منصبه، وذلك لأنه لموقف الخاص من عملية السلام، وهو موقف مبني على رؤية شرعية في تعريف العدو المحتل والصلح معه، ولذا فقد آثر أن يترك منصبه ويبتعد عن الموقع الرسمي ليكون أقدر على إصدار فتواه التي يقتنع بها ويرى صدقها؟
وخلال سنوات طويلة من تركه الموقع الرسمي كان يقيم حلقة للعلم في مسجده وفي بيته، يدرّس من خلاله مجموعة من طلبة العلم الشرعي، وبقي كذلك حتى ارتأت الدولة أن ترسله سفيرا إلى إيران، بعد أن أخفق كثير من السفراء في التعامل مع المذهب الشيعي والتقريب بين البلدين، واستطاع بما يملك من رؤية وحكمة وتسامح أن يتعامل مع أصحاب العمائم السوداء ويتخذ موقفا يقرب فيه بين المذاهب على طريقة الاعتدال الإسلامي والأمة الواحدة.
وبعد عودته بسنوات طلبته دولة الإمارات العربية المتحدة لتأسيس دائرة للإفتاء العام فيها، وبعد ذلك طلب إلى الأردن ليتسلم تأسيس دائرة الإفتاء العام في المملكة، حيث قام بتأسيس وحدات إفتاء في كل محافظة وتعيين المفتين والباحثين فيها ليقدموا رؤيتهم للناس وتوضيح الأمور الشرعية الراهنة، وصار للدائرة موقع على الإنترنت ومجلس للإفتاء.
لقد ضرب الشيخ الجليل مثلا فريدا في الأمانة والصدق والإخلاص والحفاظ على المال العام في كل مواقعه التي تسلمها، وآخرها عندما أعاد 1.2 مليون دينار فائض على ميزانية الدائرة، وأشار حينها إلى أن المسؤول الذي يبذر أموال المسلمين خائن، وتحدث في بعض مقابلاته أن الدائرة ردت إلى الخزينة مبلغ 500 الف دينار في السنة الأولى وحوالي 700 الف دينار في السنة الثانية، والسبب أن الموازنة ترصد لجميع الظروف بما فيها الظروف الحرجة، وعندما لا تحدث هذه الظروف يجب أن ترد هذه الأموال إلى خزينة الدولة أي إلى بيت مال المسلمين، وهو يرى أن الذي يبذر من ماله مبذر، أما الذي يبذر من مال المسلمين هذا خائن وغالّ، وقال الله تعالى "وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وسوف يأتي يوم القيامة يحمل الأموال التي غلها.
خرج الشيخ نوح من دائرة الإفتاء بطريقة أظنها غير لائقة رغم أنه لم يتحدث عنها، إلا أن استقالته كانت مفاجئة ولم يعرف أحد لماذا استقال وترك منصبه، وكان من المفترض أن نقدم لهذا العالم الجليل مزيدا من الاحترام والتقدير، لأننا نعرف جميعا أن الأمة التي لا تحترم علماءها أمة هالكة لا قيمة لها ولا تحترم نفسها، ومع ذلك فعندما خرج من الدائرة لم يغضب ولم يحنق بل قام بإعادة الهدايا التي أرسلت إلى منزله وقدمت إليه أثناء عمله مفتيا للملكة، وأشار إلى أن هذه الهدايا مقدمة من بعض الشخصيات والسفارات، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقبل الهدية، وهي قدمت إلى منصب المفتي وليس إلى نوح سلمان القضاة، لذلك يجب أن نميز بين الشخص والمنصب وعندما ننادي دائما بالأمانة فيجب أن نطبقها.
نرجو لشيخنا طول العمر وهو يرقد على سرير الشفاء، ولم نسمع عن مسؤول رسمي واحد قام بزيارته والاطمئنان عليه، وللأسف لا ندري لماذا نتجاهل علماءنا، بل صرنا نخاف أكثر أن نصل إلى مرحلة لا نجد فيها شخصا يُحترم، وعندئذ سنفقد البوصلة والمرجعيات إن لم نكن قد فقدناها فعلا.
*أكاديمي أردني " منقول عن الغد "
المفضلات