في منطقة "عالية" في إربد، حيثُ يقطُنُ عديلي، شَرِبنا قهوتنا وانطلقنا نصلّي المغربَ في مسجدها.
قالَ لي ونحنُ نَهبِطُ درجَ المسجدِ بعدَ الصّلاة : " بِدّي أعرّفكَ على صديقي الّلدود..محمود النمراوي، شاب رائِع !"
ابتسمتُ للريحِ الباردة الّتي استقبلها صدري عندما انعطفنا سيراً للطريق العام : "صديقك هذا، كم عمره ؟"
قال ضاحِكاً : " مِن جيلنا تقريباً، لكن ليش السؤال ؟ "
قلتُ وأنا أفتحُ باب سيّارتي : " لمجرّد العِلم، والإحتياط التفاعلي معه"
كانت الطريق تَغُصّ بالسيّارات، وكان شهرُ رمضان يوشكُ أن يأكلَ مِن شَعبان، والناسُ في الشوارع كالنمل، وخلتني لو ألقيتُ عليهم حفنةً مِن الأرز لم تسقط حبّةٌ منها على الأرض !
إربِد..هذه المدينة الفاتِنة حقّاً، والفاتِكةُ بإحساسي..!
لَم يكن بيننا وبينها سوى بِضعة كيلومترات عندما كُنا بِتلك الربوة الخضراء .
"مِن أي طريق بيت صاحبك ؟"
إختناق مروري أمام "إربد مول"، وبالنسبةِ لي وعلى خِلاف طَبعي، كنتُ أبتسم لِهذا الإكتظاظ.. أن تشعر أنّك لا شيء، وأنّك كلّ شيء، وأنّ الدنيا أجمل مِن أن تكرهها، وأبغض مِن أن تُحبّها، فهو شعورٌ يبتلعكَ فتبتلعُ أنتَ معه ضياعك ووجودك أيضاً..!
نحن نقف الآن أمام بيتِ "محمود"، وهاهو يمشي حثيثاً نحونا، طويل عريض أصلع..!
"تأخرتوا..السلام عليكم، مرحباً أخي"
كانَ ودوداً جِدّاً، ويبدو ابن اربعين عاماً، ولكِنّي جاملته فأبديتُ غيرَ ذلك حينَ تمّ ذِكر مسألة اعمارِنا، وكان ابنُ اثنين وثلاثين عاماً فقط، في حين جاملني هو الآخر فقال لي : "تبدو في الثامنة والعشرين أو أقل" عِلماً أنني تخطّيتُ الثامنة والثلاثين..!
مسألة العُمر –أحياناً- لا تعني لي الكثير حين أقرأ في وجوه الناس خِلاف ما أنا عليه مِن رقم سنوات العُمر الذاهِب، وإن كنتُ أشعرُ أنّ هذا ليسَ أوان الإحساس بِهِ، فهو لا زال بعيد الحِساب بِهذهِ الكيفيّة !
وانطلقنا نتجاذب أطرافاً مِن أحاديثٍ جميلةٍ لطيفة، وكانت وجهتنا "شارع البتراء"
هذا الشارِع هو جُزءٌ مِن الطريق العام للعاصمةِ عَمّان !
وكان الهواءُ خُرافياً .. بارِداً نَديّاً، وكان "شارع البتراء" أشبه ما يكون بشاطيء الأسكندريّة في الصيف !
مِئات الكراسي تنتظمُ على الرصيف، والأراجيل وبائعو القهوة والشاي والعصائِر، والبطاطا والذرة المشويّة، والمكسّرات، و"الترمس" يملأونَ الأرض، وكأنّهم نِصف الناس هُناك..!
اختار عديلي "عامِر" مكاناً لائِقاً بِنا، وهرعَ إلينا شابٌ يُرَدِّد ترحيباً نَمطيّاً وهو يُنظّم لَنا جِلسَتنا ويَمسحُ مقاعدنا وطاولتنا.."أهلاً بالبشَوات، تفضلوا سيدي، أوامركم"
قلتُ : "نسكافيه"
عامر : "ساده"
محمود : "ساده"
ليسَ أجملَ مِن ذلك المساء في ناظري حتى الآن، رغمَ أنّي كنتُ مُمَزّقاً في داخلي، مُنذ شهرين، ولكِنّ في النفسِ ما يُحَدّثها أنّها لا بُدّ أنّها كذلك أيضاً..!
وتناولتُ طَرَفاً مِن "أنشودة المطر" مع الرِّفاق - تلك القصيدة البديعة-
: " ثُمّ حينَ لجّ في السؤال
قالوا لهُ : بعدَ غدٍ تعود
لا بُدّ أن تَعود..! "
حَنَت مِنّي نَظرَةٌ عابِرة للرصيف المُقابِل.. ما هذا !
احتضنَ بصري بشوق كلمتين باللونِ الأحمر على أرضيّةٍ خضراء ليافِطةٍ مُضاءةٍ مِن داخلها .. "مقهى آذار" !!
: "مُنذُ متى والمقهى هُنا ؟!" سألتُ عديلي بشكل مُفاجيء !
تعجّب مِنّي وقال : " مِن زَمان.. إيش أبو عبدالله ! "
غُصتُ في مقعدي، وتركتُ لآذار يَنالُ ما يُريد مِن ذاكرتي..!
المفضلات