بين أكثر المشاهد درامية في أحداث الثورة المصرية المتوالية، كانت لحظة دخول بلطجية الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم إلى ميدان التحرير في القاهرة على ظهور الجمال والخيول، لتخويف المطالبين برحيل الرئيس المصري ونظامه وإرغامهم على المغادرة.
واكتمل المشهد غير المسبوق عالميا عند انقضاض الشبان على المهاجمين المزودين بأسلحة بيضاء وإسقاطهم من فوق ظهور الدواب وإشباعهم ضربا وركلا.
الصورة هذه كانت تتويجا لسلسلة صور لا تقل درامية نقلت وقائع ثورة الشباب المصري إلى العالم لحظة وقوعها أو بعدها بأيام عبر الأشرطة التي تبثها الفضائيات، في مقدمتها الجزيرة.
وشملت هذه الأشرطة مواجهات الثائرين على النظام مع الشرطة في السويس والقاهرة والإسكندرية وسيناء ومناطق مصر الأخرى، ولحظة انكسار قوات الشرطة وتراجعها أمام المتظاهرين في يوم "جمعة الغضب".
"
الإعلام الحكومي بقي هو المصدر الوحيد لكل التصريحات والتغطيات والمعلومات الخاصة بالرئيس مبارك والحكومة وقراراتها وقيادة الجيش وبياناته، سواء تلك المتعلقة بموقفه من التطورات أو بإجراءات الحاكم العسكري
"
كما شملت صورا لعمليات القتل المتعمد للمتظاهرين في السويس وسيناء والإسكندرية باستخدام الرصاص الحي أو الصدم بالسيارات.
وبالتوازي مع تدفق الصور ذات التأثير الفوري، كانت المعلومات تتدفق بدورها لحظة بلحظة حول تطورات المواجهات مع الشرطة وقوات الأمن المركزي في كافة المدن وعن نزول الجيش إلى الشوارع.
وكان من البديهي أن يكون مصدر المعلومات ذات المصداقية عن أحداث الثورة ليس الإعلام الرسمي المصري بل الفضائيات والمواقع الإخبارية والمدونات والصحف العالمية وصحف المعارضة المصرية الموصوفة بأنها "صحافة حزبية" مقابل الصحف الحكومية المحسوبة على النظام والمسماة "صحفا قومية".
لكن الإعلام الحكومي وخصوصا الفضائيات الإخبارية الرسمية بقي هو المصدر الوحيد لكل التصريحات والتغطيات والمعلومات الخاصة بالرئيس حسني مبارك والحكومة وقراراتها وقيادة الجيش وبياناته، سواء تلك المتعلقة بموقفه من التطورات أو بإجراءات الحاكم العسكري الخاصة بحظر التجول أو تمديده.
بدوره، لم يقف الإعلام الممول من الحكومة أو المدافع عن مواقفها مكتوف اليدين، فبذل مجهودا كبيرا في استضافة شخصيات مقربة من الرئيس مبارك أو الحزب الحاكم للتعليق على التطورات والترويج لمواقف النظام، خصوصا ما اتصل منها بأقوال الرئيس المتعلقة بتمسكه بالسلطة حفاظا على الاستقرار، وبرز بين هؤلاء نقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد.
دريم والمحور
أما بعض الفضائيات الخاصة وخصوصا "دريم" و"المحور" ولأجل التميز عن وسائل الإعلام، فقد عدلت برامجها لمواكبة الحدث ومحاولة نقل صورة عن أنشطة الاحتجاج، بالتوازي مع عرض مواقف شخصيات مقربة من الحكومة أو مروجة لروايتها.
في هذا السياق لجأ مقدما برنامج "48 ساعة" في قناة المحور إلى محاولة تشويه صورة المطالبين بإنهاء الفساد والانتهاكات واستعادة الحرية عبر التشكيك في وطنيتهم وتقديمهم في صورة العملاء الذين يخدمون مصالح الخارج.
وبرزت هنا قصة الفتاة ذات الصورة المموهة التي ظهرت ليلة الأربعاء 3 يناير/كانون الثاني الماضي على تلك الفضائية، لتقول إنها من الناشطات في الدفاع عن حقوق الإنسان، وإنها ومجموعة شباب من جمعيات المجتمع المدني والإخوان المسلمين تلقوا تدريبات في واشنطن والدوحة حول كيفية القيام بمظاهرات ضد الحكم في مصر، والقيام بأعمال شغب ضد رموز النظام الحاكم.
"
في مثال على محاولة تشويه صورة المتظاهرين، برزت قصة الفتاة ذات الصورة المموهة التي ظهرت على قناة المحور، لتقول إنها من الناشطات في الدفاع عن حقوق الإنسان، وإنها ومجموعة شباب من جمعيات المجتمع المدني والإخوان المسلمين تلقوا تدريبات في واشنطن والدوحة
"
وأضافت نجاة أن "من ضمن فريق التدريب أفرادا قطريين، وأن المنظمات الحقوقية التي شاركت في التدريب حصل كل منها على 50 ألف دولار لإحداث انقلاب في الحكم"، مؤكدة أنها ستحضر المستندات في الحلقة التالية، وهو ما لم يحدث.
لكن زملاء تلك الفتاة ما لبثوا أن تعرفوا عليها من صوتها ليتبين أنها صحفية تدعى نجاة عبد الرحمن وتعمل في صحيفة "24 ساعة".
وعمل رئيس تحرير الصحيفة –وهو معروف بقربه من الحكومة- على النأي بنفسه عن الفبركة الفجة عبر إجبار الصحفية على توقيع إقرار بأن ذلك تم بغير علم الصحيفة ومحرريها.
الصحف الحكومية سعت بدورها للتكيف مع الوضع الجديد بمحاولة اتخاذ موقف وسطي بين المحتجين والحكومة مع تدهور موقف الرئيس وتقديمه تنازلات للثائرين عبر تعيين نائب له والموافقة على إجراء تعديلات دستورية.
وسطية عبد المنعم
وأعطى رئيس مجلس إدارة الأهرام عبد المنعم سعيد نموذجا لذلك في مقال أعادت نشره "النهار" اللبنانية يوم 4 فبراير/شباط الجاري تحت عنوان "في شأن ما الذي جرى في المحروسة"، قال فيه "لم تكن التظاهرات حادث يوم واحد، وإنما كان التصميم واضحا أن يكون لفترة لا يعرف أحد نهايتها".
لكنه أضاف في فقرة أخرى "لم يكن في الأمر ثورة لها صلبها السياسي وأهدافها المحددة، ونظامها الذي تريد إقامته بديلا من النظام القائم. وفي دولة يتعدى عدد سكانها المقيمين ثمانين مليون نسمة، فإن هذه الظاهرة الجماهيرية تصبح متصورة في اندفاعها نحو المطالبة بالإصلاح حتى ولو لم يكن مستساغا ومؤلما ساعة الحرق والتدمير".
ويضيف الرجل الأول في أبرز صحيفة ورقية مصرية "تستمر الصورة في الظهور حيث ينبغي لها أن تكون عندما نجد دولاب العمل في الحكومة والدولة المصرية وجهازها الأمني يجري في مساره الطبيعي، فلا محاكم توقفت، ولا مدارس غابت، ولا حتى جامعات -حيث الكتلة الحقيقية من الشباب- توقفت عن تلقي العلم".
بالتوازي مع ذلك انقلبت صورة الصفحة الأولى لهذه الصحيفة رأسا على عقب مع استمرار تراجعات النظام، فحلت التغطيات القادمة من ميدان التحرير محل أخبار الوزراء والمديرين, واحتل خبر قدوم المدون المفرج عنه وائل غنيم موقعا بارزا في الصحيفة إلى جانب ملحق خاص بالشباب وتحركهم الاحتجاجي.
"
انقلبت صورة الصفحة الأولى لصحيفة الأهرام رأسا على عقب مع استمرار تراجع النظام، فحلت التغطيات القادمة من ميدان التحرير محل أخبار الوزراء والمديرين, واحتل خبر قدوم المدون المفرج عنه وائل غنيم موقعا بارزا في الصحيفة، إلى جانب ملحق خاص بالشباب وتحركهم الاحتجاجي
"
وأتت هذه التحولات العميقة في المشهد الإعلامي المصري بعدما عبر الصحفيون عن مواقفهم كمواطنين وليس كإعلاميين، سواء بالتبرؤ من كل التغطية التي تقدمها وسائل الإعلام الرسمية، أو بالدعوة إلى إقالة نقيب الصحفيين، أو بالنزول إلى ميدان التحرير للمشاركة في الاحتجاج كما فعلت إحدى مذيعات التلفزيون الرسمي.
شهادة وفاة
ويلخص أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة الدكتور هشام عطية في تقرير نشرته صحيفة الراية القطرية مآل الإعلام الحكومي بعد ثورة مصر، بالقول إن الأحداث الأخيرة وتغطية الإعلام المصري لها كتبت شهادة وفاة منظومة الإعلام الرسمي التي ينفق عليها من قوت الشعب.
وفي محاولة للاجتهاد في الوضع الذي يمكن أن يرسو عليه المشهد الإعلامي المصري الذي غيرته جهود المدونين وصفحات الفيسبوك، تقترح أستاذة الإذاعة بكلية إعلام جامعة القاهرة الدكتورة إيناس أبو يوسف عبر نفس الصحيفة القطرية ما يلي:
تنفيذ ما جاء برسالة الدكتوراه الخاصة بالدكتور محرز غالي، وملخصه طرح أسهم الصحف القومية على الاكتتاب العام بحيث يمتلكها الصحفيون والعاملون فيها، لأن خصخصتها تضعها في يد رجال أعمال هدفهم أيضا ليس الحقيقة أو الموضوعية، بل التحيز لمصالحهم الخاصة والضيقة.
المصدر: الصحافة القطرية+الصحافة البريطانية+الصحافة المصرية+الصحافة اللبنانية
المفضلات