مِنْ تعقيدات اللحظة العربية الراهنة، أنّها، بالإحتمالات الممكنة لآفاقها، تضعُ الوجود العربيّ المعاصر، بعناصره الأساسية الثلاثة؛ الوطن والدولة والنظام، في عين العاصفة. فلحظةُ التغيير العربية المباحة، أو الممكنة، نظرياً أو عملياً، التي يرى كثيرونَ أنّها تحملُ آفاقاً رحبةً من الحريّة والإنعتاق، فإنّها، في الوقت عينه، تحملُ مخاطرَ لا حدّ لها. ذلكَ أنّها لا تتحرّكُ لوحدها، بل ضمنَ طموحاتِ إقليمية جامحة، وأطماع دولية غاية في الشراهة والتوحّش.
فتغيير النظام الاستبدادي أو إسقاطه، وهو الشعار الأبرز في إحتجاجات الربيع العربيّ، يرتبط بتغيير جذري في الدولة ومؤسّساتها. ذلكَ أنّ أنظمة الإستبداد العربي أفرغت الدول» إلى القاع. وهي بكلّ هذا، كانت تُفرغ فكرة الدولة من محتواها، وتمنع بناء أوطانٍ حقيقية مندمجة، في آنٍ معاً. كما أنّ زعزعة أركان الدولة الخاوية تحملُ، في طيّاتها، فكرة تفكيك الوطن إلى عناصره الأوليّة، أو إلى العناصر السابقة لتأسيس الوطن الحديث، مِن طوائف وأعراق وقبائل وجماعات.
ليسَ ما سبق موقفاً سلبياً مطلقاً مِن عملية الإحتجاج الشعبيّ، الذي يهزّ بعنفٍ أرجاءَ القارّة العربية، بكلّ أركانها وأوطانها المحلية، التي نشأت بُعيدَ الحرب الكونية الأولى. بل هو محاولة لإستحضار معظم عناصر اللحظة السياسية التاريخية، المخيف منها والمطمئن، الإيجابي منها والسلبي، كي لا نُفاجأ بنتائجَ محبطة، كتلكَ النتائج التي واجهها العربُ بعد إنهيار السلطنة العثمانية، واكتفى الجميعُ بعدها بتعليق السبب على الخديعة، وعلى إتفاقية «سايكس بيكو» السريّة، وغيرها من الأسباب الدولية والإقليمية، التي هي في جوهرها من طبيعة الأشياء، في تحرّك القوى الكبرى، أثناء إدارتها للأزمات الإقليمية الدولية.
في تُراثنا السياسيّ القريب، يصحّ القول، بأنّ العرب نجحوا نسبياً في بناء دول، لكنّهم لم ينجحوا في بناء أوطانٍ محصّنة أو منيعة، لا يكسرها الإصلاح أو دعوات التغيير. فالطغيانُ أجهز، مبكّراً، على براعم فكرة الدولة، ولم يكترث أحدٌ لِما كان يحدث بفكرة الأوطان، من تآكلٍ وتشرذمٍ وتشظٍّ.
لم نبذل، سلطات وأنظمة ومعارضات، جهوداً حقيقية، من أجل بناء فكرة الأوطان. فأوطاننا، عاشت وتعيش حالات من التشكيك؛ فثمّة تشكيك في بعض فئات الشعب، وفي بعض فئات الأمة، ناهيك عن التشكيك في شرعية الوجود والحدود والكيانات، فضلاً عن التهديد بالتفكيك والتفكّك، لفئات وأحزابٍ وقوى أخرى، إذا لم يرضخ الجميع إلى أبدية الحكم المطلق. وهنا، ينبغي تذكّر لحظة الخطورة، أثناء الدعوة لتغيير الأنظمة.
فعلى محمل الجدّ، ينبغي أخذ التهديدات، التي تُطلقها الأنظمة المعرّضة للإنهيار. سيّما تلكَ التهديدات المتعلّقة بتفكّك الأوطان، والتنبؤ بالحروب الأهلية..؟! فتلك الأنظمة وحدها، وقبل غيرها، مَن يعرف مدى هشاشة النسيج الوطني في بلدانها. وهي وحدها مَن يتحمل وزرَ ذلك ومسؤوليته، بما راكمته من ضعف في مجتمعاتنا، فوق ضعفنا وهشاشتنا الموروثة، وبما غذّته من نوازع ما قبل الدولة، بالفساد المنهجي، والتفرقة المحسوبة، والقمع المدمّر لروابط الحرية والتضامن والإستقلال الفعليّ، وهما عماد بناء الوطن الحقيقي، والدولة الحقيقية.
لحظةُ التغيير العربية الراهنة، على وجاهة وشرعية إنفجارها، تحملُ في أحشائها قلق الدنيّا كلّه، بأنّ يصحوَ العربيُّ على لحظة وجودٍ، لا وطنَ فيه ولا دولة ولا نظام..!؟
المفضلات