بسم الله الرحمن الرحيم
الثاني : عن أبي ذر أيضاً ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقه ، وكل تهليله صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ) رواه مسلم (107). ( السلامى ) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم : المفصل .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله في باب كثرة طرق الخيرات ، فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ) السلامى هي العظام ، أو مفاصل العظام ، يعني أنه يصبح كل يوم على كل واحد من الناس صدقة في كل عضو من أعضائه ، في كل مفصل من مفاصله ، قالوا : والبدن فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً ، ما بين صغير وكبير ، فيصبح على كل إنسان كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة .
ولكن هذا الصدقات ليست صدقات مالية ، بل هي عامة ، كل أبواب الخير صدقة ، كل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنك إذا أعنت الرجل في دابته وحملته عليها أو رفعت له عليها متعة فهو صدقة )(108) كل شيء صدقة ، قراءة القرآن صدقة ، طلب العلم صدقة ، وحينئذ تكثر الصدقات ، ويمكن أن يأتي الإنسان بما عليه من الصدقات ، وهي ثلاثمائة وستون صدقة .
ثم قال : ( ويجزى من ذلك ) ، يعني : عن ذلك ( ركعتان يركعهما من الضحى ) يعني أنك صليت من الضحى ركعتين ؛ أجزأت عن كل الصدقات التي عليك ، وهذا من تيسير الله ـ عز وجل ـ على العباد .
وفي الحديث دليل على أن الصدقة تطلق على ما ليس بمال .
وفيه أيضاً دليل على أن ركعتي الضحى سنة ، سنة كل يوم ، لأنه إذا كان كل يوم عليك صدقة على كل عضو من أعضائك ، وكانت الركعتان تجزي ، فهذا يقضي أن صلاة الضحى سنة كل يوم ، من أجل أن تقضي الصدقات التي عليك .
قال أهل العلم : وسنة الضحى يبتدئ وقتها مع ارتفاع الشمس قدر رمح ، يعني حوالي ربع إلى ثلث ساعة بعد الطلوع ، إلى قبيل الزوال ، أي إلى قبل الزوال بعشر دقائق ، كل هذا وقت لصلاة الضحى ، في أي وقت فيه تصلى ركعتي الضحى ، ما بين ارتفاع الشمس قدر رمح إلى وقت الزوال ، فإنه يجزي لكن الأفضل أن تكون في آخر الوقت ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال )(109) ، يعني حين تقوم الفصال من الرمضاء لشدة حرارتها ؛ ولهذا قال العلماء : إن تأخير ركعتي الضحى إلى آخر الوقت أفضل من تقديمها ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن تؤخر صلاة العشاء إلى آخر الوقت ، إلا مع المشقة .
فالحاصل أن الإنسان قد فتح الله له أبواب طرق الخير كثيرة ، وكل شيء يفعله الإنسان من هذه الطرق ، فإن الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة . والله الموفق .
* * *
الثالث : عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عرضت علي أعمال أمتي ، حسنها وسيئها ، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن ) رواه مسلم (110).
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها ) عرضت علي : يعني بلغت عنها ، وبينت لي ، والذي بينها له هو الله ـ عز وجل ـ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي يحلل ويحرم ويوجب ، فعرض الله ـ عز وجل ـ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المحاسن والمساوئ من أعمال الأمة ، فوجد من محاسنها : الأذى يماط عن الطريق ، ويماط : يعني يزال ، والأذى ما يؤذي المارة ؛ من شوك ، وأعواد ، وأحجار ، وزجاج ، وأرواث ، وغير ذلك . كل ما يؤذي فإماطته من محاسن الأعمال .
وقد بين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة ، فهو من محاسن الأعمال ، وفيه ثواب الصدقة ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم : أن ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان )(111) ، فإذا وجدت في الطريق أذى فأماطته ؛ فإن ذلك من محاسن أعمالك ، وهو صدقة لك ، وهو من خصال الإيمان وشعب الإيمان .
وإذا كان هذا من المحاسن ومن الصدقات ، فإن وضع الأذى في طريق المسلمين من مساوئ الأعمال ، فهؤلاء الناس الذين يلقون القشور في الأسواق ، في ممرات الناس ؛ لاشك أنهم إذا آذوا المسلمين فإنهم مأزورون ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58) قال العلماء : لو زلق به حيوان أو إنسان فانكسر ، فعلى من وضعه ضمانه ، يضمنه بالدية أو بما دون الدية إذ كان لا يحتمل الدية ، المهم أن هذا من أذية المسلمين .
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الناس من إراقة المياه في الأسواق فتؤذي الناس ، وربما السيارات من عندها، فتفسد على الإنسان ثيابه ، وربما يكون فيها فساد لا شك للإسفلت ؛ لأن الإسفلت كلما أتى عليه الماء وتكرر ؛ فإنه يذوب ويفسد .
فالمهم أننا ـ مع الأسف الشديد ونحن أمة مسلمة ـ لا تبالي بهذه الأمور ، وكأنها لا شيء ، يلقى الإنسان الأذى في الأسواق ، ولا يهتم بذلك ، يكسر الزجاجات في الأسواق ، ولا يهتم بذلك ، الأعواد يلقيها ؛ لا يهتم بذلك ، حجر يضعه لا يهتم بذلك ، إذن يستحب لنا كلما رأينا ما يؤذي أن نزيله عن الطريق ؛ لأن ذلك صدقة ، ومن محاسن الأعمال .
ثم قال : ( ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن ) النخاعة يعني النخامة ، وسميت بذلك لأنها تخرج من النخاع ، النخامة تكون في المسجد لا تدفن ؛ لأن المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مفروش بالحصباء ، بالحصى الصغار ، فالنخامة تدفن في التراب ، أما عندنا الآن فليس هناك تراب ، ولكن إذا وجدت فإنها تحك بالمنديل حتى تذهب ، واعلم أن النخامة في المسجد حرام ، فمن تنخع في المسجد فقد أثم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( البصاق في المسجد خطيئة ) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم أنها خطيئة وكفارتها دفنها ، يعني إذا فعلها الإنسان وأراد أن يتوب فليدفنها ، لكن في عهدنا : فليحكها بمنديل أو نحوه حتى تزول .
وإذا كانت هذه النخاعة ، فما بالك بما هو أعظم منها ، مثل ما كان فيما مضى ، حيث يدخل الإنسان المسجد بحذائه ولم يقلبها ويفتش فيها ، ويكون فيها الروث الذي ينزل إلى المسجد ، فيتلوث به فأنت اعتبر بالنخامة ، ما هو مثلها في أذية المسجد ، أو أعظم منها ومن ذلك أيضاً أن بعض الناس تكون معه المناديل الخفيفة ، ثم يتنخع فيها ويرمي بها في أرض المسجد ، هذا أذى ، ولا شك أن النفوس تتقزز إذا رأت مثل ذلك ، فكيف إذا كان ذلك في بيت من بيوت الله ، فإذا تنخعت في منديل ، فضعه في جيبك ، حتى تخرج فترمي به فيما أعد لذلك ، على ألا تؤذي به أحداً . والله الموفق .
(107) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب استحباب صلاة الضحى ، رقم (720) .
(108) أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد ، باب من أخذ بالركاب ونحوه ، رقم (2989) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف ، رقم ( 1009) .
(109) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب الأوابيين رقم ( 748) .
(110) أخرجه مسلم ، كتاب المساجد ، باب النهي عن البصاق في المسجد رقم (553) .
(111) أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان ، باب أمور الإيمان ، رقم (9) ، ومسلم كتاب الإيمان باب شعب الإيمان ، رقم (35) .
العلامة محمد بن عثيمين يرحمه الله
المفضلات