المشهد الأول..
يسير في الشارع تائهاً يبدو عليه القلق.. بالكاد يسند نفسه.. تتضارب قدميه مع بعضهما البعض.. فاليمنى ترغب بالسير أولا واليسرى تسابقها الى ذلك الشرف.. عيونه مفتوحة على مصراعيها.. مشرعة للهواء أبوابها.. ذراعاه لا تقويان على حمل يديه.. عقله يبدو مثل شخص مشرد يعيش ويعتاش على القمامة في بروكلين..
تراه يصطدم بالمارة الواحد تلو الآخر.. ويكاد يصحو من ذلك الكابوس على صوت دوي انفجار.. صوت الانفجار قريب جدا من أذنه.. لكنه لا يعلم ما حدث.. ومن سوء حظه لا يعلن أي تنظيم ارهابي مسؤوليته عن هذا الانفجار.. ويبقى المتهم مجهولا.. وعبثاً يحاول جهاز مخابراته الفاشل أن يتوصل للفاعل.. الى أن يمن الله عليه بمصدر متبرع للمعلومات.. يفيده بأن ذلك الانفجار ليس إلا صفعة على وجهه تلقاها من سيدة اصطدم بها.. وبالكاد يقدم صاحبنا مكافأة لهذا المصدر على معلوماته القيمة.. ولا تزيد مكافأته عن إيماءة برأسه تعبيرا عن الشكر..
ويكمل صاحبنا طريقه تتقاذفه أمواج المارة.. فتلقي به ذات اليمين وذات الشمال.. وعقله باسط ذراعيه للرصيف.. ويسير كريشة تلعب بها النسائم.. فيجد نفسه مرة أمام متجر للسلاح ومرة أخرى أمام روضة للأطفال.. تجد نفسه في لحظة ما عبيرا عبقا.. وهذه المرة كان عقله قادراً على تمييزها.. حينها علم بأنه يمر بساحة مسجد.. ويمضي بعيدا بعيدا.. ليجد روائح طالما ثمل بصحبتها.. فيتذكر عقله ندماء الليالي الحمراء التي اعتاد أن يحييها في قصره الكبير.. ويستمر في سعيه نحو منتصف المجهول..
يتابع صديقنا طريقه.. أصبح غير قادر على اتخاذ القرار.. بأي قدم يسلم على الرصيف.. أيمد قدمه اليمنى فتغضب اليسرى؟ أم يمد اليسرى فتحرد اليمنى كفرس أوشكت أن تحرز المركز الأول في مسابقة للحواجز.. وعند الحاجز الأخير.. سقطت.. تزداد حيرته ويقرر صاحبنا أن يتبع سياسة الإبقاء على الوضع القائم.. فحالة اللاحرب واللاسلم هي الأفضل له وللرصيف، فإن اشتعلت الحرب فهو أول الخاسرين بسقوطه والرصيف ثانياً لكثرة ما ستتهاوى عليه من الجثث.. أما السلم فليس قراره لأن عقله ما زال يأخذ قيلولة على أحد أرصفة بروكلين.. وعليه يتفق صاحبنا - والرصيف - على أنه لا بد من ترك هذا الوضع قائماً الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا..
ويمضي في طريقه.. وكأنه يسير على درج كهربائي في أحد مولات دبي.. فقدماه ثابتتان والرصيف يجري تحتهما ويسحبه للأمام. وفي سيره تلتقط أجهزة الرادار لديه موجات غريبة.. فيشعر بأنه في وكالة ناسا.. حيث التلسكوبات وأجهزة الرصد يستعملها ليلتقط إشارات وأصواتا من الفضاء الخارجي.. ويصحو عقله فجأة على صوت قطة تبحث عن طعام لها في إحدى حاويات القمامة.. ليربط بين الموجات الصوتية التي سمعها وبين أطباق الاستقبال في ناسا وبين بحث القطة عن طعامها.. نعم إنه صوت صادر من أحشائه.. إنه صوت الرصاصة الأولى للثورة أطلقتها معدته معلنة الانقلاب عليه.. لأنه لم يمتثل لأي من قرارات الشرعية الصحية.. وخالف كل أعراف منظمة الصحة العالمية.. حين ارتكب جريمة حرب بنشره مجاعة في سائر أقطار جسده.. فهو منذ مدة ليست بقصيرة لم يأكل شيئاً باستثناء أكله للدخان والقهوة - بنهم شديد - فكانت ثورة هدفها قلب نظام حكمه الديكتاتوري..
وأخيرا أحس بذنبه تجاه الرعية التي هو مسؤول عنها.. ولكن.. سرعان ما عاد عقله للسبات.. كدب راح يقضي فصل الشتاء في كهف هادئ أجواؤه حارة كأغوار الأردن.. واستمر صاحبنا في مشيه.. وقاده الدرج الكهربائي الى حافة الرصيف.. ولأول مرة تطأ قدماه أرض الشارع.. وتعود به الذكريات الى ناسا في احتفاليتها بالذكرى الأربعين لهبوط أول إنسان على أرض القمر.. فهو يهبط على الشارع في تجربة غريبة لم يعايشها من قبل.. تجربة جد جديدة بالنسبة له.. أصبح يشعر نفسه كطفل صغير راح ينظر بلهفة الأطفال وفرحتهم البريئة الى الألعاب الجميلة في ديزني لاند باريس .. فهو اختبر نفسه كرة قدم تتقاذفها أجساد المارة وجدران المحلات واللافتات على الرصيف.. لكن الوضع هنا مختلف.. يحس صاحبنا بنفسه وكأنه جندي في المارينز عاصر الألعاب النارية في فييتنام وظن أن الوضع في العراق يشبه ذلك..
وهنا أوشك عقله على الصحيان.. لكن هيهات هيهات.. وينظر الى أمواج السيارات تمر مسرعة من أمام ناظريه.. وليس هذا فحسب بل إن عليه أن يمر بهذه التجربة مرتين.. حين يعبر شارعين.. ويقف لبرهة.. يطالع قدميه.. أيهما ترغب بالمسير أولا الآن ؟؟ ولا اجابة.. وتأخذه مشاعره الى ازدحام القاهرة.. حيث قد تسير الى حيث لا تريد لكثرة الازدحام.. ويدفعه أحد المارة.. ويرى نفسه في خضم بحر من السيارات.. لا يعلم يتجه يمينا.. يسارا.. يعود.. يتقدم...؟؟؟؟؟ كلها أسئلة بات الآن بحاجة ماسة الى عقله لكي يجيب عليها...
المشهد الثاني:
يرى كل من حوله أبيض.. وكأنه في السعودية في موسم الحج.. بياض الثياب.. ونقاء النفس والسريرة.. وطهرة المكان.. وينصت فيسمع صوت عربة يجرها شخص ما.. وأصوات عجلاتها يصرخ في تلك الضجة العارمة.. الكل يتحدث.. الكل ينادي.. وينظر الى أعلى فلا يرى إلا الإضاءة.. فيشعر أنه جالس في مهرجان الأردن 2009.. والإضاءة على أشدها تتجه باتجاه فنان العرب محمد عبده.. وهو يشدو : ( الأماكن كلها مشتاقة لك ).. وفي هذه اللحظة الراااااااااااااائعة !!!!! يصحو صاحبنا على صوت خشن كزئير أسد راح يملأ الأجواء في افريقيا.. ويقول: (أين طبيب التخدير.. هل هو في إجازة؟؟ اين فني التخدير.. بسرعة؟ أحضروه لي سريعا..)
وينطلق لسان صاحبنا تأخذه العبرة قائلاً..
( لست بحاجة الى أي إبر للتخدير.. يا دكتور.. قم بما تريده من إجراءات دون تخدير.. )
ويجيبه الطبيب: ( كيف ذلك ؟؟؟؟؟ )
فيخرج صاحبنا من جيبه صورة حبيبته قائلاً:
( فقط ضع هذه الصورة أمام أعيني ولن أشعر بشيء )
المفضلات