يوحي تجاهل الدوائر الرسمية في ليبيا للانهيار الذي يتعرض له القصر التركي الأثري (القشلة) في مدينة بنغازي، بأن لعاب أصحاب الاستثمارات والشركات أو من يعرفون باسم "متعهدي الإزالة لغرض التطوير"، يسيل على موقع المبنى الأثري الذي يعود إلى حكم رشيد باشا الثاني (1889-1893).
وقد بنى الأتراك العثمانيون الجزء الأمامي من المبنى الذي يبلغ طوله 155م، في حين بنى الطليان عقب دخولهم البلاد جوانبه التي تقترب من 200م. وتتشابه الغرف التي يتجاوز عددها 360 والأجنحة الرئيسية في البناء والعمارة بجزأيها التركي والإيطالي، غير أن إنجاز البناء انتهى في عهد طاهر باشا خليفة رشيد عام 1895، وتقدر تكاليف ترميمه الآن بعشرات الملايين من الدينارات.
القنصل العام التركي في بنغازي علي داود (الجزيرة نت)
خسارة تاريخية
والقصر التركي هو مأوى الجيش في فصل الشتاء، ويعد أكبر ثكنة لتدريب الجنود، وقد استخدم لهذا الغرض منذ العهد التركي إلى الإيطالي ثم الجيش الليبي الحديث.
وزار القنصل العام التركي علي داود القصر قبل أيام، وقال في تصريح للجزيرة نت إن حكومة بلاده وافقت على قيامها بأعمال الصيانة في جانبها، موضحا أن ليبيا "هي من تقرر كيفية صيانة الجانب الإيطالي".
واطّلع المسؤول التركي على انهيار الجزء الشرقي الإيطالي، في حين لم تسجل الجزيرة نت زيارة أي مسؤول ليبي للمكان.
وأوضح داود أن تركيا أعدت مشروع ترميم القصر قبل ثلاثة أعوام، وأن محتوياته اعتمدت من الجانبين الليبي والتركي، وستتم مناقشته بين الشركة التركية صاحبة الدراسة ومصلحة الآثار في الجماهيرية، مؤكدا أن الصرح يحمل تاريخا مشتركا بين البلدين.
ويخشى رئيس مراقبة آثار بنغازي محمد الشلماني انهيار بقية الأجزاء والمبنى بالكامل خلال فصل الشتاء المقبل، وقال في حديثه للجزيرة نت إنهم في أوضاع "لا يحسدون عليها"، مضيفا أن انهيار القصر بأكلمه "خسارة تاريخية" لإرث حضاري وإنساني، موضحا أن الأتراك على استعداد لترميمه.
وأشار إلى أن جهاز الرقابة يدرس حاليا المقترح التركي، والكرة الآن في ملعب الليبيين، مؤكدا أن قوانين ليبيا تحمي المدن التاريخية التي تجاوز عمرها مئات الأعوام.
لكن الباحث في التاريخ الإسلامي جمعة كشبور قال في تصريح للجزيرة نت إن الانهيار الأخير متوقع منذ فترات طويلة.
وأكد أن المبنى لم تمتد إليه يد الإصلاح والترميم، بل لم تساهم أي جهة حكومية في حمايته ودعم صموده أمام العوامل الطبيعية المختلفة، متسائلا "ماذا تتوقع من مبنى مهجور منذ ما يقرب عن 20 عاما؟".
آثار الإهمال بادية على أجزاء من القصر (الجزيرة نت)
نفوس مريضة
الباحث كشبور على ثقة بأن المبنى كان قادرا على الاستمرار والصمود أمام الزمن لفترة أطول، لكنه أكد أن تدخل تشاركية وطنية "لا خبرة لها في التعامل مع المباني القديمة" وتكليفها بترميم الجزء المنهار حاليا، وراء ما يتعرض له المبنى من انهيارات.
وأوضح أن التشاركية هدمت الأسقف وأزالت الجدران وكشفت الأحجار أمام الرياح والأمطار، ثم حملته أثقال الإسمنت والحديد المسلح، وانسحبت قبل إتمام عملها وتركت المبنى يواجه مصيره المحتوم بمفرده.
وقال كشبور "إذا لم تتحرك الجهات المسؤولة على وجه السرعة قبل هطول الأمطار فإن الجزء الشرقي سينهار خلال أيام، وستنهار البقية في بضعة أشهر.
وختم بالقول إنه في الوقت الذي يعبر فيه المخلصون عن خوفهم من ضياع هذا الأثر التاريخي، "هناك من أصحاب النفوس المريضة" من يترقبون زوال هذا المعلم التاريخي لإقامة مشروعاتهم مكانه.
الجزء الشرقي الإيطالي المنهار (الجزيرة نت)
عجز مؤسسي
وما زالت كتابات الطبيب باولو ديلا شيلا تؤرخ لصفحات من القصر، إذ يشير الباحث في الآثار الحبيب الأمين إلى أن "تقادم المبنى وتهالك جدرانه وحاجته للترميم العاجل والشامل رغم الدعوات المتوالية لإنقاده ليس إلا تشخيصا لحاله كطلل يتلاشى وحالتنا كمتفرجين".
ويقول إن القصر الأثري "يقف الآن مترنحا يتفتت في صمت كشاهد إثبات على فشلنا ولا مبالاتنا كمعاصرين سواء من المتحمسين أو المفرطين ومن لا حول لهم ولا قوة، وسط صمت مطبق وعجز مؤسسي لمسؤولين لا يقدمون إلا الكلام ولا يفعلون غير الإهمال".
وأضاف أنه "ربما من الأجدر بنا إطلاق حملة دولية عبر مؤسسات دولية كاليونسكو لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من إهمالنا وعبثنا بتراث يبدو أن بيننا من ينادي بهدمه والقول بأننا لسنا بحاجة إليه أو لا نستحقه".
المصدر: الجزيرة
المفضلات