كل شيء كان مرتباً حتى قدوم الليل بدا مودعاً بينما يجلب سكينة مبهمة المعالم تمنحني شعوراً بأن الشمس ما عادت لتشرق على هذه البقعة وإذا ما فعلت ربما فلن أكون هنا على أية حال لأراقب شروقها المزعوم والذي كان يوماً من عاداتي! كذلك زجاجة العطر تبدو صامتة هناك على التواليت بعد أن هجرتها في سبيل أخرى جديدة هذا الصباح فأنا من أولئك الذين يعتبرون العطر ذاكرة قد تعيد أشياء كثيرة تموت الآن كلها مع لحظات ترتيبي لحقيبة السفر!!
شعور غريب تحمله جدران غرفتي الأربعة كأنها صارت صامتة أكثر من العادة بينما تودع بعضاً من معاطفي المعلقة وذلك الوشاح الذي لم تطاوعني نفسي حمله معي لأسباب كثيرة أهمها أنه عانقها يوماً بحرارة جعلت الشتاء يقف مذهولاً بينما تتحول إمطاره الباردة إلى زخات تجعلها أكثر قرباً كلما اشتدت.. اقتربت لآخر مرة من مفتاح الضوء وكأن أصابعي ترغب في توديعه للمرة الأخيرة وأغلقت الباب في هدوء وحملت المفتاح الى رسبشن الفندق لياتي بعدي من يسكن هذة الغرفة لتصبح ذكرياتي هناك غريبة بينما تولد أخرى جديدة لشخص جديد.
بدأت أحاول جاهداً حمل معالم الوجوه كي لا أنسى أحدا غير أني وجدت أنه من الأفضل أن اسلك طريقاً فرعياً لا أقابل في وجوه تعرفني قد تحاول تقاسم مرارة الرحيل معي
أو تتقاسم معي خطواتي الباردة باتجاه آخر معاركي! نوافذ الغرفة المفتوحة تتسرب منها لحظات كثيرة أحفظها عن ظهر قلب غير أنها الآن تشعرني بتسلية فريدة وكأن حقيبتي معها صارت أخف وزناً وأنا أحاول استراق ما يمكنني جمعه من المتعة في مواجهة مطار يضج بالأشباح وبلاغات الرحيل.
شرعت في محاولة إخفاء بعض من ملامحي المصابة بالإعياء من هول لحظات الوداع و السقوط وكأنها ليلة قادمة لأفقد معها كل شيء كم كرهت تذكرتي وجواز سفري لحظتها غير أنهم ربما يكونون مثلي محملون بدموع وذكريات
صار الليل أكثر إقناعا بينما أتصفح أعمدة النور عبر الحديقة العامة بحثاً عنها وأخيرا وليس بعيداً من ركننا المفضل كانت تسير ببطيء لا يشبهها فهي عادة تختار لنا أحد المقاعد بجانب كشك الايس كريم والذي يتحول كشكاً للشاي و القهوة في ليالي الشتاء كهذه. بدأت في السير معها غير أنها لم تنطق بأي شيء فقط مدت يدها وشاركتني حمل الحقيبة بينما نسير باتجاه جسر صغير معلق فوق بحيرة صغيرة ترتاده الطيور غير أنه خال تماما منها بعد هجرتها الشتوية عنه. شعرت بها تنحني باتجاه الأرض لتقنع يدي بترك الحقيبة على بوابة الجسر فهي لا ترغب في أن يتلوث جسرنا بنكهة الرحيل أو أن يكون بقعة للوداع بعدما كان يوماً أعظم مدننا وأشهى مواقعنا فثمة فصول كثيرة من الحياة جمعتنا هنا أكثر من ما يعلم الجميع حتى الشتاء كان يحترم لنا قدسية المكان فلم يكن ليجعل من لحظات اقترابنا إلا لحظات أكثر دفئاً.
وقفنا لحظات طويلة في صمت نراقب هدوء الحياة التي كانت يوماً صاخبة من حولنا نتساءل إذا ما كان حقاً هذا المساء المرصع بالبرد و الرحيل هو الأخير لنا قبل أن تكسر هي كل صمت لتخلع خاتمها الذي اهديتها اياه في هدوء و تلقيه باتجاه البحيرة ليستقر
في قاعها بينما تعانقني مرة أخيرة لتهمس في أذني خاتمك جعل من هذه البحيرة ملكاً لي للأبد هدية منك لن تسمح لي يوماً أن احتفظ بغير ملامحك أو أن أعانق غيرك
قبل أن تختفي بخطوات مسرعة باتجاه الجانب الآخر من الجسر بعد أن صارت الدموع أعظم من أن تحتمل لأعود أنا أيضا باتجاه حقيبتي لأسلك طريقاً لا يصلح ان اسلكه الا وحيداً..
المفضلات