بقلم : موسى حوامده
اللامبالاة التي يعامل بها العرب لغتهم غير مسبوقة في التاريخ ، فرغم أن هذه اللغة هي لغة القرآن الكريم نفسه ، ولغة المسلمين في عباداتهم ، ولغة التراث العربي ، وهي اللغة التي وصلت للصين ولأواسط أوروبا وغربها وأواسط أفريقيا ، والتي لازالت بعض القوميات تكتب بها لغتها ، والتي كانت تدرس بها العلوم في اوروبا ، وترجم عنها الكثير من الكتب والمراجع ، ورغم أنها لغة العرب منذ ألفي سنة ، والتي ما زال ابناؤها يفهمون الشعر والخطابات التي قيلت بها ، قبل الإسلام نفسه ، ورغم أن حركة النهضة أعادت الحياة لهذه اللغة ، بعد عقود من الجهل والتخلف والإهمال طيلة الحكم العثماني ، فقام عدد من أبنائها العرب المسيحيين خاصة ، بإحياء هذه اللغة وتأليف المعاجم والقواميس فيها ، وكتب بها رواد النهضة ، وبينوا أن اللغة العربية حية وما زالت قادرة على العيش والتطور ، وبرز محمود سامي البارودي كمجدد في القصيدة العربية ، وتلاه وسبقه العديد من الكتاب والمفكرين الإصلاحيين ، الذين أجادوا استخدام هذه اللغة التي كادت تتوارى بشكل حديث وعصري.
ورغم استقلال الدول العربية ، وقيام كل دولة بتثبيت أن اللغة الرسمية هي اللغة العربية في دساتيرها ، إلا أننا نشهد تراجعا كبيرا في احترام هذه اللغة ، بل هناك سياسات متعمدة للاستغناء عنها ، والسماح بتخريبها وقتلها وعدم استعمالها.
الحكومات العربية لم تعد معنية باحترام هذه اللغة ، وهي تسمح (إلا ما ندر منها) بطغيان اللغات الاجنبية على شوارعها ووسائل اعلامها ، وترى بعينها كيف وصل الأمر في المدارس والجامعات من جهل وتجهيل ، وتقليل لإجادتها والتحدث والكتابة بها ، لكنها لا تحرك ساكنا بل تتمادى كثير منها بفتح منابر إعلامية بلغات اجنبية ، والسماح بنشر إعلانات بلغة أجنبية ، دون ان يتصدى أحد لهذه الظاهرة ، فيما برزت ردود فعل قوية حين دعا لويس عوض وسعيد عقل وغيرهما ، إلى استخدام اللهجات المحكية في العالم العربي.
وفي نفس الوقت تصمت مجامع اللغة العربية عن ممارسة دورها ووظيفتها ، لأنها مؤسسات رسمية غير فاعلة ، وتصمت الجامعات وروابط الكتاب واتحاداتهم ، وتطغى اللغات الأجنبية دون أن تبرز مسيرة واحدة تطالب بتطبيق هذه اللغة ، وسن قوانين لعدم اجتياح اللغات الثانية للغتنا ، وهذه سنة متبعة في كثير من الدول التي تحترم لغاتها كما قال الدكتور علي القاسمي في العدد الماضي من الدستور الثقافي ، حيث قامت فرنسا بسن قانون يلزم باستعمال الفرنسية.
هذا الخراب والتخريب للعربية ، لم يتوقف فهو يجري في كل المحافل والميادين ، مما سبب ضعفا كبيرا لدى الناطقين بها وحتى الكتاب والطلاب والمعلمين ، وساهمت وسائل الاعلام والأعمال الفنية الهابطة ، بترويج لغات محكية على حساب اللغة الأم ، كما ستساهم المحطات الفضائية الجديدة بالترويج لغير العربية عبر السينما.
ودون أن تتحرك مؤسسات المجتمع الفاعلة والجامعات والحكومات ووزارات الثقافة والتعليم والتعليم العالي ، فإن الخطر يقترب ، والكارثة تزداد ، والتراجع يتفشى ، والركاكة تطغى ، والكفن يُجهز لنا ، والفناء يبدأ من موت اللسان وشلل اللغة.
نقول ذلك ونحن نميز بين شيوع مصطلحات أجنبية ، وتدمير متعمد للغة العربية ، وبين السعي لتعلم لغات العالم المختلفة ، والترجمة منها ولها.
لقد بلغ بعض التغريب والتخريب مبلغه ، فقد تم طرد المدرسين الفلسطينيين من الإمارات ليحل محلهم مدرسون أجانب ، وصارت بعض المدارس ترفض التدريس بالعربية ، وكثير من مناهج الجامعات بلغة ثانية ، حتى بدأت بعض الصحف الأردنية ، بطباعة ملاحق بالانكليزية ، لجرائد وصحف أمريكية ، وليس ترجمتها ، ووصل الأمر إلى الكتابة باللغة الانجليزية فقط ، في الكثير من المراسلات واليافطات والإعلانات والمؤسسات.
لم يعد هناك من يهتم بهذه اللغة ، او يأبه للأخطاء والجرائم التي ترتكب بحقها ، فصرت ترى الغلط ، وتسمع الخطأ ، وتشاهد الجرائم ولا تحرك ساكنا ، حتى أن وسائل الاعلام صارت تنشر بلا ضوابط ، وبأي طريقة وشكل ، حتى ملأت الأخطاء والركاكة صحفنا وتلفزيوناتنا وشوارعنا ومدارسنا ، وصارت شائعة ، وهي مقدمات لخراب لغوي شامل.
المثقفون صامتون ، ولا يحركون ساكنا ، لكنهم يغضبون حين يعلن أحد المفكرين العرب أننا أمة على وشك الإنقراض ، وأن لغتنا ستصبح لغة محنطة ، وننبري للرد عليه وتوجيه التهم ، والقول بأننا أمة عظيمة ، راسخة ولغتنا محفوظة من الزوال ، ولكننا لا نلتفت إلى ما يجري حولنا ، وعلى ألستنا ، ومن أقلامنا.
إننا في كارثة لغوية وحضارية تكاد تحذف هذه اللغة ، وتزيلها من الاستعمال اليومي والكتابي ، لوضعها على الرف ، وما الاستسهال في التعامل مع اللغة ، والتغاضي عن ارتكاب الأخطاء الفاحشة ، دون رادع ونشر الرداءة والابتذال ، إلا بداية لعصر الخراب القادم لا محالة
منقول
عن الدستور /الدستور الثقافي
العدد 14896 تاريخ 3/ 11 / 2009
المفضلات