د. فتح الله عمران المســوري
تمهيـد:
يجمع فقهاء القانون بشكل عام، وفقهاء القانون الدستوري بشكل خاص، بأن دستور الدولة يمثل الإطار العام لكل من شرعيتها ومشروعيتها ، وهو أيضاً يعتبر أساساً لسيادة القانون والدولة القانونية ، وهو الباب والملاذ من جميع أساليب وممارسات الدولة الاستبدادية والدكتاتورية والانحراف بالسلطة، فاستبداد الحاكم وانحرافه بالسلطة الوجهة غير الشرعية يقوده حتما إلى الخروج على الشرعية، وتزايد جبروته وتعنته وانفراده بالقرارات ومحاربة التغيير،والحيلولة دون مشاركة الرعية في كافة القرارات التي تهم مستقبل الدولة وشعبها في الداخل، وفي علاقاتها مع الجماعة الدولية عن طريق ممثليه المنتخبين وفقا للأسس الديمقراطية الصحيحة، كما يؤدي ذلك إلي تزايد أعداء النظام، الذي يزعزع استقرار الدولة وأمنها، ولذا يسعى الحاكم الذي جاء أو استولي علي السلطة بغير وجه حق، بإحداث انقلاب عسكري مثلا، كما فعل معمر القذافي، إلى الهيمنة والحفاظ بتلك السلطة على ما هي عليه، أو خلق أساليب ونظريات جديدة في الحكم والسياسة، مخالفة لما هو متعارف عليه لدى سائر الأمم المتحضرة، ثم يلبسها رداء الشرعية المهلهل، ويرسم لها صورة يصر على أنها شرعية، ويحاول فرضها على الشعب ويرغمه على تقبلها وتطبيقها على أرض الواقع، مستخدماً أتباعه وكافة أجهزة الدولة وكل ما أوتي من قوة، للبطش والتنكيل بخصومه ومعارضيه، ويعمد إلى تهميشهم أو إلحاق التهم بهم والزج بهم في السجون دون محاكمة، أو بعد محاكمات لا تتوفر ولا تراعى فيها الضمانات القانونية لحق الدفاع، أو تصفيتهم جسدياً إذا لزم الأمر، أو ملاحقتهم في الخارج مستخدماً كافة الأساليب غير الإنسانية في إرهابهم واغتيالهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا يسلك هؤلاء الحكام بأمرهم، في ليبيا وغيرها، هذا الطريق؟
إن الإجابة على هذا التساؤل يمكن إسنادها لأمور عديدة، منها مجيء الحاكم للسلطة بطريق غير مشروع، كالانقلاب العسكري الذي أحدثه القذافي في ليبيا، بل وحتى عن طريق الثورات في بعض الأحيان، إذا انحرفت عن أهدافها ومسارها الشرعي، وحادت عن مطالب الشعب، وقد يهدف الحاكم من وراء ذلك أيضاً إلى إشباع رغباته السياسية واستمرار بقائه، ودوام هذه الممارسات غير المشروعة ومواجهة وتحدي المتطلبات الأساسية لحقوق الأفراد وحرياتهم، حتى يبقى ويستمر في السلطة ويحول دون تداولها وفقاً للأساليب والأشكال الديمقراطية السائدة في العالم المتحضر.
ومن المتفق عليه أنه من حق النظام السياسي أن يسعى لتأمين استقراره وعدم زعزعة أركانه خلال المدة المقدرة له دستورياً وقانونياً . ولكن يجب أن يتم ذلك -على ما سيأتي بيانه- بالشرعية والمشروعية الدستورية، والتقيد والالتزام بحقوق وحريات الأفراد الأساسية، وتداول السلطة، على أن تمارس الدولة ذلك في إطار ديمقراطي صحيح وسليم وفعال. ويفهم من ذلك أن لزوم التغيير من الأمور الأساسية التي يجب على كل نظام سياسي أن يستجيب له ويتقبله ، لأن تخلفه عن التغيير يجعله عرضة لفقدانه عنصر المرونة فيه كنظام ديمقراطي متقدم وعادل ، ويجعل نفسه هدفاً للعنف السياسي بكافة أشكاله، الذي يسعى مخططوه ومنفذوه إلى هدم ذلك النظام الجامد والإطاحة بأركانه، ومن ثم يصبح تصرفهم هذا أمراً مشروعاً، بل واجب حتمي، يقع على جميع شرائح الشعب، تحقيقاً لممارسة مبدأ حقه المشروع في البقاء، والتقدم والحفاظ على كيانه وحقوقه ومنع اعتداء سلطات الدولة عليهما أو المساس بهما، وهذا ما دعا معمر القذافي أن يبكر بتصفية بعض أعوانه بعد انقلاب سبتمبر 1969 بسنوات قليلة، بل وسعى جاهدا مهما كلف الأمر، ليستأثر بالسلطة طوال حياته، كما كان يعتقد، بل تنتقل من بعده إلي أولاده، لذا كان حريصا طوال الأربعة عقود علي الإطاحة بسائر محاولات التغيير حتى أصبح التغيير أو مجرد محاولة القيام به هو عدوه الأول، كما قام بمطاردة السياسيين من خصومه في الداخل والخارج وكبح الحريات وخرق القوانين أو إلغاء ما يعطل منها -كما يزعم- مسيرة ثورته، لإحكام قبضته على مقاليد الحكم في ليبيا، وقد أثبت الواقع فشل جميع الخيارات والتجارب والأساليب السياسية التي طرحها في الإدارة والحكم، التي انقلبت إلي فوضي سياسية وإدارية.
من هنا أدرك الشعب الليبي بأن القضاء على هذا النظام أصبح أمراً مشروعاً، بل واجبا وطنيا مقدسا، تتحمل أعباءه وتقوم بتنفيذه جميع شرائح الشعب الليبي في الداخل وفي الخارج، بالطرق السلمية أولا، انطلاقاً من مبدأ الولاء والإخلاص والحب للوطن، بهدف إقامة نظام سياسي بديل، أساسه سيادة الدستور والقانون، وتحقيق سعادة المواطنين الليبيين، والعيش الكريم لهم، وحماية حقوقهم العامة والخاصة، والمحافظة على الثروات الوطنية، ومنع التلاعب بها، وبمقدرات هذا الشعب. وكانت هذه أولي الأهداف التي دعت إليها حركات المعارضة منذ تأسيسها، داخل ليبيا وخارجها، باستثناء تلك التي دعت مؤخرا إلي المصالحة مع النظام، كما كانت الأهداف الجوهرية لانطلاق شرارة ثورة السابع عشر من فبراير الخالدة، فالحق هو الذي يكتب له النصر في النهاية، فكل نظام يصادر الحقوق والحريات العامة لشعبه ولا يحترمها مآله الانهيار، لأن هذه الحقوق هي التي تمثل كيان الفرد في الدولة، فلا كيان للدولة بدون كيان لأفرادها .
المفضلات