بقلم د. أيمن الجندى ٢٨/ ١/ ٢٠١١
اسمع يا سيدى حكايته، ولكن قبل أن تسخر منه تذكر أنه لم يخطط مسبقاً للقاء الرجل الكبير، وحتى لو خطط لهذا مدة مليون سنة لما استطاع مقابلته، يشبه الأمر هدفا أذكره منذ عشرين عاما، كرة طاشت من قدم لاعب مغمور، فسجل هدفا فى مرمى الأهلى، لذلك حينما جرى لاعبو الفريق لتهنئته، فإن اللاعب وحده بقى غير مصدق أنه أحرز الهدف فعلا، ولذلك لم تبد عليه ملامح الفرحة.
بالضبط الأمر نفسه، نجاحه فى مقابلة هذا السياسى العظيم والاقتصادى الكبير يرجع لجنون الفكرة، كان يمر بالصدفة تحت مقر الشركة فخطرت على باله فكرة مقابلته، سنوات عديدة مضت منذ أن كان فى محل الحلاقة- بانتظار دوره- يقرأ فى مجلة قديمة منزوعة الغلاف، حيث أشار الصحفى فى سياق المقال إلى مقر شركة الرجل الكبير، لم يفكر وقتها أن هذه المعلومة- التى اختزنها دون وعى- يمكن أن تنفعه، وقتها كان شاعراً يجيد صياغة مشاعره فى كلمات حالمة، لذلك لمعت عينا «رشا» حينما قرأت قصيدته المعلقة على لوحة مجلة الكلية، رسم ملامحها فى أرق صورة شعرية ممكنة، شفتاها المضمومتان كزهرة برية على حافة نبع، حاجبها المقوس كهلال أنيق، وهاتان العينان المكدستان بالنجوم، والضوء الرقيق المنتشر من لا مكان فى وجهها. كانت تعرف أنه يحبها، وحينما رقت ملامحها وسهمت عيناها كالحالمة أدرك أنه لمس قلبها هذه المرة.
لكن هذا تاريخ مضى. لم تكن هناك إشارة واحدة فى هذه البناية تدل على وجود مكتب الرجل الكبير، الذى يحدد – بكلمة منه– سياسات مصر الاقتصادية، التى يترتب عليها شقاء الملايين. أغلب الظن أنه احتفظ به لأسباب عاطفية بحتة، لأن انطلاقته بدأت من هذا المكان.
المكتب أقرب إلى التقشف.. أحيانا تخفى المبالغة فى التأنق رغبة فى إثبات التفوق، وهو أمر ليس بحاجة لإثبات. إنه الرجل الذى يرتزق منه أنصاره وخصومه، بامتيازات يغدقها على أنصاره، وحتى رواج صحف المعارضة مرتبط بالتنديد بفساده.
على أن هذا ليس هو المهم الآن، تقدم صاحبنا إلى مديرة مكتبه، وطلب لقاء الرجل الكبير، تتبع عينيها، وهى تطوف بملابسه المتواضعة وذقنه غير الحليقة، وكأنها تؤكد له استحالة وجود ما يجمع بينهما، لكنه لم يشعر بذرة ارتباك، وإنما نظر إليها فى ثبات مماثل، فى ضربة مقامر، تصادمت الإرادتان لوهلة، ثم ابتسمت فى غموض، غابت لبرهة ثم عادت وطلبت منه أن يتبعها ففعل، وهو لا يكاد يصدق أنه سيقابل الرجل الكبير بهذه البساطة.
شاط الفتى الكرة فأحرز هدفا، وبالتأكيد لو أعاد تصويبها بالطريقة نفسها عشرة ملايين مرة، فلن يسجل الهدف مرة أخرى. المهم أن يغتنم الفرصة التى لن تعود ثانية.
وجد نفسه أمام الرجل الكبير، بشحمه ولحمه وصورته التى تطالعه فى الجرائد، لكنه لم يشعر بأدنى خوف، باختصار أعادت المحنة تشكيله حينما انسحبت «رشا» إلى عالمها الحقيقى، وسمع أنباء متناثرة عن خطبة وشيكة، ورغم أنها لم تعده بشىء، فلم يراوده شك أنها خانته، أصدقاؤه سخروا منه، ولم يجرؤ هو على عتابها، لأنه كان يعلم ردها مقدما، كل ما هنالك أنه ذهب لأبيها يطلب يد كريمته، حينما خرج من بيتها شبه مطرود كان قد أصبح «مشروع إرهابى» ينتظر فرصته لتفجير العالم.
لكن الرجل الكبير لم يمنحه ترف التأمل فى ذكرياته. قال فى نبرة حاسمة: «ماذا تريد؟».
شعر الفتى بالرهبة، ولكنه صمم ألا يتراجع، فقال ببساطة: «سيدى، جئت لأقول لك إننى مستعد للقيام بأى عمل غير قانونى تطلبه منى».
ياله من مجنون!. المدهش أن الرجل الكبير ابتسم. يبدو أنه كان رائق المزاج هذا الصباح لسبب أو لآخر، أو يريد أن يتسلى، لم يغضب أو يطرده، وإنما قال له: «ماذا تعنى بالضبط ؟».
استجمع الشاب شجاعته وقال: «إن حجم أعمالك يبلغ المليارات، وبالطبع يصعب أن تكون قانونية تماما، لذلك فكرت أننى ربما أستطيع أن أكون مفيدا لك بشكل أو بآخر».
انفجر الرجل الكبير فى الضحك فارتبك الشاب، وقال بصوت مهتز: «لعلى أسأت التعبير».
- على العكس. أنا أفهمك.
- ببساطة أنا مستعد لأى عمل غير قانونى (قالها فى يأس).
-هكذا؟
-جربنى، لماذا لا تصدقنى؟
رفع حاجبه فى شبه غضب، وقال وقد تراجعت ابتسامته: «ومن قال إنى لا أصدقك؟».
قال فى ارتياح: «الحمد لله (ثم فطن إلى غرابة الكلمة فسكت)».
قال الرجل الكبير فى جد: أنت حاصل على شهادة جامعية.
-كيف عرفت؟
-( مستطردا)، وبالطبع لم تجد وظيفة ملائمة.
- لم أجد أى عمل على الإطلاق.
- كنت شابا مثاليا ولعلك أحببت فتاة جامعية؟
- ( صمت مُندهشاً).
- ولكنها خذلتك وتصرفت بمعرفتها.
- كيف عرفت عنى كل شىء؟ ( قالها فى ذهول).
استطرد الرجل الكبير: «قلت إن المبادئ ضعف والجوع كفر. وقد حان الوقت للتخلى عن مبادئك كالثوب القديم».
- بل كالحذاء القديم، قالها الشاب مصححا.
- وفى لحظة عزمت أن تكون وغداً بعد أن لم يعد لديك ما تفقده. وأنا مشهور بالفساد والصفقات المشبوهة، لذلك فقد أتيت لتعرض خدماتك علىّ.
- هذه هى الحقيقة دون زيادة أو نقصان.
-لكنك كنت ساذجا حينما تصورت أنى سأرحب بعرضك.. هل تعرف لماذا؟
هزّ رأسه متسائلا، وقد سحره الحوار، فاستطرد الرجل: «لأننى ببساطة لا أخالف القانون».
قال الشاب كالمذهول: أحقا؟
قلب الرجل الكبير كفه كالمتعجب: «ولماذا أخالفه إذا كنتُ أنا من يكتبه، على مقاسى وحسب مصالحى بالضبط.. يا بنى من يملك المال يملك القوة، ومن يملك القوة يكتب القانون.. أفهمت؟
صفّر الشاب فى إعجاب، وقال: «أنتم فعلا تستحقون النجاح الذى حققتموه».
هزّ الرجل الكبير رأسه موافقا، ثم قام معلنا انتهاء المقابلة. غادر الشاب المكان كالمسحور، وقد بدا الانبهار على وجهه، بينما راح الرجل الكبير يرمقه فى صمت حتى غادر الغرفة.
المفضلات