المقارنة.. سلبياتها و إيجابياتها
صورة
ابراهيم كشت
المقارنة هي توجيه الانتباه إلى شيئين أو أشياء من جنس واحد في لحظة واحدة ، لمعرفة واكتشاف ما بينها من تشابه وتماثل واختلاف ، بهدف التوصل إلى الحقائق واستخلاص النتائج والدلالات من خلال هذه الموازنة والمفاضلة بين تلك الأشياء 0 وأعتقد أنه لو لم يكن دماغ الإنسان يملك هذه القدرة العالية على المقارنة ، لما تمكّن من فهم الأشياء والأفكار من حوله ، ولما تمكّن من قياسها ومعرفة المقادير والأوزان والأحجام والمساحات وتفاوت الدرجات وتباين المستويات 0
المقارنة تساعدنا على فهم الوجود :
تقوم الحياة كلها على أساسٍ من تلك الثنائية الراسخة التي تتمثل في وجود الأضداد في كل ما حولنا ، فثمة القريب والبعيد ، والصغير والكبير ، والطويل والقصير ، والسالب والموجب ، والساخن والبارد ، والفاشل والناجح ، والسهل والصعب ، وآلاف الأضداد التي يمكن أن نملأ بها معجماً كاملاً 0 وهذه الصفات المتقابلة وإن كان كل منها يُشكّل صفة الضد بالنسبة للآخر ، إلا أنها في حقيقتها ومن حيث المبدأ صفةٌ لشيء واحد ، فالقريب والبعيد صفة المسافة ، والبارد والساخن صفة الحرارة ، والسالب والموجب صفة الشحنة ، وهكذا 0 وبالتالي فإننا نقارن الحرارة في الأشياء ، أو نقارن المسافة أو المساحة أو الصعوبة 00 إلخ ، ونتوصل من خلال ذلك لفهم الأشياء وصفاتها ، ونتمكن من تحديدها وتمييزها وقياسها والمفاضلة بينها 0
حين نخطىء المقارنة :
لقد قصدتُ أن أقول من خلال هذا الذي تقدم ، أن المقارنة أساسٌ في فهمنا للوجود وصفات الأشياء ، وأساسٌ في قدرتنا على القياس والتمييز ، فلا غنى عنها ، وإنما تكون المشكلة دائماً حين نخطئ المقارنة ، أو حين نمارس المقارنة مصحوبة بانفعالات وشحنات سلبية ، أو حين نلجأ إلى أنواعٍ من المقارنات تكون آثارها مثبِّطة 0 وأكثر ما تقع هذه المقارنة الخاطئة حين يقارن الناس بعضهم ببعض ، من حيث أوضاعهم المادية أو المهنية أو الوظيفية أو التعليمية أو الأسرية أو سوى ذلك 0 وينبع الخطأ في ذلك ـ فيما أرى ـ من جانبين : أحدهما خطأ منهج التفكير ، وثانيهما إدخال المشاعر في عملية المقارنة 0
المقارنة كمنهج تفكير :
فالمقارنة كمنهج تفكير ينبغي أن تُراعى فيها أصول وشروط محددة لتكون صحيحةً وقريبةً من الدقة ومنتجةً ، وتكون نتائج المقارنة ودلالاتها أصوب وأكثر دقةًّ إذا كان هناك تماثل في العناصر وتقارب أو تشابه في الصفات والخصائص والظروف بين الشيئين (أو الجانبين) اللذين نخضعهما للمقارنة 0 وكلما تباينت الصفات أو الخصائص أو الظروف بين الشيئين (أو الجانبين) اللذين تتم مقارنتهما كانت دلالة المقارنة أبعد عن الصواب 0 فأن نقارن نتيجة امتحان صعب يعتمد على التفكير والتحليل والاستنتاج ، تقدم له طالبان من نفس الصف الدراسي ، أحدهما ذكاؤه دون المتوسط ، والآخر ذكاؤه متفوّق ، وحصل الأخير على علامة أعلى من الأول ، ثم نخرج بنتيجة مفادها أن الأول لم يبذل جهداً فـي الدراسة بمقدار ما بذل الثاني ، فتلك نتيجة ليست صحيحة بالضرورة ، لأن المقارنة غيّبت أثر عنصر الذكاء ذي الأهمية والتأثير 0 وأن نقارن نتيجة أعمال شركة زراعية تعمل بنفس حجم رأسمال شركة عاملة في قطاع الإسكان ، حققت الأولى ربحاً بواقع خمسة في المائة ، والثانية عشرة في المائة ضمن نفس الفترة ، ثم نستنج أن الثانية أكثر نجاحاً في إدارتها وكفاءتها ، فتلك أيضاً دلالة خاطئة ، لأن المقارنة لم تأخذ بالاعتبار ظروف عمل وإنتاج وتسويق كل قطاع تنتمي إليه 0
وقد تبدو الأمثلة المتقدمة بسيطة أو ساذجة ، لكنها تعبر عن خطأ كثيراً ما نقع فيه دون أن نشعر ، حين نلجأ للمقارنة في حياتنا الشخصية أو الزوجية أو الوظيفية أو الاجتماعية أو المالية ، فمن طبيعة الإنسان أنه يلجأ لتحوير منهج التفكير وإعـادة تشكيله والعبث بمقوماته ، ليخرج بنتائج تواتي أحاسيسه وغرائزه وإملاءات لاشعوره 0 وأضرب مثلاً على ذلك ما لاحظتُهُ في سلوك كثير من الموظفين حين يقارنون أنفسهم بزملائهم من حيث الترقيات والدرجات الوظيفية والزيادات المالية ، فتجد الموظف يستند في مقارنته إلى جانب واحد أو أكثر ، ويُحيّد جميع الجوانب الأخـرى ذات التأثير في مجال المقارنة ، ولو لاشعورياً ، كأن يقول مثلاً لقد ترقّى فلان ولم أَترقَ أنا ، رغم أني أَقدمُ منه بعدة سنوات ، وخبرتي أطول من خبرته ، وينسى جميع العناصر الأخرى المؤثرة فـي مجال المقارنة ، مثل حجم الإنجاز وجودته وكيفية أدائه ومـا فيه من إبداع 00 إلخ ، وبالتالي يخرج من المقارنة بدلالة خاطئة تقول إنه ضحية ومظلوم ومهدور الحقوق 000!
حين تتأثر المقارنة بالمشاعر :
وتكون المقارنة خاطئة بمنهجها ودلالاتها غالباً حين يكون باعثها مشاعر سلبية كالغيرة والحسد والإحساس بالنقص ، أو حين تكون المقارنة موجهةً بهذه المشاعر أو متأثرة بها ، فالاعتماد على الشعور والإحساس يفسد منهج المقارنة الصحيح ، ويحيد بدلالاتها عن الصواب ، حتى لو كنا نتحدث عن مقارنة أحوال وصفات المواد في الطبيعة ، فما بالك إن تعلق الأمر بالحياة الإنسانية ؟ وخذ مثلاً على ذلك لو أردت أن تقارن ماءً فاتراً بماءٍ شديد البرودة ، فإذا استخدمت ميزان حرارة لغايات المقارنة فسوف تخرج بنتائج سليمة ، أما إذا دخل الإحساس في الأمر ، فوضعت يدك في الماء البارد مثلاً ثم في الماء الفاتر فستخرج بمقارنة ذات دلالة فاسدة ، حيث ستشعر بالماء الفاتر على أنه ساخن 00! وهذا ما تفعله المشاعر والأحاسيس حين ترافق المقارنة على المستوى الإنساني 0
وللسبب المتقدم فإن كثيراً من الناس حين يقارنون أنفسهم بالأكثر نجاحاً وتفوقاً منهم ، مقارنة مترافقة مع مشاعر الغيرة أو الحسد أو الكراهية ، يُغفلون كل العوامل ذات التأثير في النجاح ، كالجهد الذي بذله المتفوق أو الخصائص النفسية والعقلية والجسدية التي يملكها ، ويركّزون على عوامل الحظ والصدفة ودعم الغير ، أو عوامل الخداع والحيلة والنفاق ، ليخرجوا من المقارنة بالدلالة التي يريدون 0
و بعد :
وتؤثر القيم في مجالات المقارنة ، فتجعلها تركز على مجال دون آخر ، ففي المجتمع الاستهلاكي مثلاً ، تكثر مجالات مقارنة الأُسر لنفسها بالأُسر الأخرى من حيث الدخل وحجم ونوع الاستهلاك وطرائقه ومظاهره ووسائله ، بينما تندُرُ في ظل هكذا قيم أن تقارن الأسرة نفسها بغيرها من حيث ما يسود حياتها مثلاً من وئام وسلام وهدوء وسكينة ، أو نماء فكري وثراء نفسي وخصوبة في الاهتمامات ، أو تراحم وتناغم وتواؤم 00
المفضلات