هذا رد شافي والله تعالى أعلم نقلته للفائدة وأعذروني على الإطالة
أمور نهي عن الخوض فيها
أحمد بن ناصر الغامدي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
فقد كثر في هذه الأزمان الجدل والنقاش فطال كثيرا من المسلمات ، بل تعدى ذلك إلى النقاش فيما ليس للعقل فيه مجال أو قد يثير مجرد طرحه على عامة الناس بلبلة وتشكيكا ، ولذلك فالإسلام رحمة بالعقل ورفقا به ، وحماية له من الضلال فقد نهى المسلم عن الخوض في بعض الأمور ، إما مطلقا لعجزه عن الوصول إلى حقيقتها وتصورها ، وإما أن يكون النهي عن الخوض فيها أمام العامة رفقا بهم ، لما قد تحدثه لبعضهم من فتنة وآثار سيئة ، وسننقل عن العلماء نقولا تدل على ذلك ، فعلى المرء أن يتعلم وأن يعرف متى يسكت ، كما يعرف متى يتكلم ، وهذه الأمور هي :
1- الأمور الغيبية (وعلى رأسها كيفية ذات الله تعالى وكيفية صفاته)
2- القدر فهو سر الله في خلقه .
3- الإمساك عما شجر بين الصحابة .
4- ترك الحديث علنا في ما لا يستوعبه العامة أو بعض المخاطبين .
1- الأمور الغيبية (وعلى رأسها ذات الله تعالى) .
التفكر لا يكون في ما لا يتوصل إليه بالفكر ، ومن ذلك الأمور التي لا تدرك بالعقل كحقيقة الروح مثلا (قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ، والأمور الغيبية مثل بعض أمور الآخرة (كذبح الموت مثلا) ، فيجب التسليم بها ، فإن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ولذلك ورد في الحديث لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشي الكفار على وجوههم يوم القيامة قال : الذي أمشاهم على أيديهم قادر على أن يمشيهم على أرجلهم . فقدرة الله تعالى لا حدود لها ، وعقولنا لها حدود ، كما أن للبصر والسمع حدا لا يتجاوزه ، ولذلك يجب الإيمان بكل ما أخبرنا الله تعالى به مما لم نره من بعض المخلوقات كالملائكة والجن مثلا ، وعدم رؤيتنا للشيء لا تدل على عدمه ، ولا يعني هذا أن الإسلام يتعارض مع العقل ، فليس في الدين ما تحيله العقول ، وإن كان قد يأتي بما تحار فيه العقول .
وأما الله تعالى فلا يمكن الإحاطة به ، قال تعالى (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) فهذه الآية تقطع الطمع في إدراك الكيفية ، وقال سبحانه (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) والمعنى أنه مع كونه يُرى ، لا يُدرك ولا يُحاط به ، لكمال عظمته . ولذلك قال الإمام مالك (رحمه الله) لما سئل عن الاستواء : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والسؤال عنه بدعة ، والإيمان به واجب ) .
وفي الحديث : تفكروا في آلاء الله (وفي بعض الروايات : في خلق الله) ، ولا تفكروا في ذات الله (وفي بعض الروايات : ولا تفكروا في الخالق) .
قال القرطبي في تفسيره : مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : تفكروا في الخلق ، ولا تتفكروا في الخالق ، فإنكم لا تقدرون قدره .
وقال ابن كثير : وذكر البغوي ... عن أبي بن كعب عن النبي e في قوله تعالى (وأن إلى ربك المنتهى) قال : لا فكرة في الرب ، قال البغوي : وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعا (تفكروا في الخلق ، ولا تفكروا في الخالق فإنه لا تحيط به الفكرة) وكذا أورده وليس بمحفوظ بهذا اللفظ ، وإنما الذي في الصحيح : يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ، من خلق كذا ؟ حتى يقول من خلق ربك ؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته ، وفي الحديث الآخر الذي في السنن : (تفكروا في مخلوقات الله ، ولا تفكروا في ذات الله ، فإن الله تعالى خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة ثلاث مائة سنة ، أو كما قال) .
لأن التفكر والتقدير إنما يكون فيما له نظير ، والله تعالى لا نظير له حتى يقاس عليه ، قال ابن تيمية –رحمه الله - : وقد جاء في الأثر : تفكروا في المخلوق ، ولا تفكروا في الخالق) لأن التفكير والتقدير يكون في الأمثال المضروبة والمقاييس ، وذلك يكون في الأمور المتشابهة وهي المخلوقات ، وأما الخالق -جل جلاله سبحانه وتعالى- فليس له شبيه ولا نظير ، فالتفكر الذي مبناه على القياس ممتنع في حقه ، وإنما هو معلوم بالفطرة فيذكره العبد ، وبالذكر ، وبما أخبر به عن نفسه ، يحصل للعبد من العلم به أمور عظيمة لا تنال بمجرد التفكير والتقدير ، أعني من العلم به نفسه ، فإنه الذي لا تفكير فيه ، فأما العلم بمعاني ما أخبر به ونحو ذلك فيدخل فيها التفكير والتقدير كما جاء به الكتاب والسنة ، ولهذا كان كثير من أرباب العبادة والتصوف يأمرون بملازمة الذكر ، ويجعلون ذلك هو باب الوصول إلى الحق ، وهذا حسن إذا ضموا إليه تدبر القرآن والسنة واتباع ذلك ، وكثير من أرباب النظر والكلام يأمرون بالتفكر والنظر ، ويجعلون ذلك هو الطريق إلى معرفة الحق ، والنظر صحيح إذا كان في حق ودليل كما تقدم ، فكل من الطريقين فيها حق لكن يحتاج إلى الحق الذي في الأخرى ، ويجب تنزيه كل منهما عما دخل فيها من الباطل ، وذلك كله باتباع ما جاء به المرسلون ، انتهى .
2- القدر سر الله .
تعريف القدر :
القدر بوضعه يدل على القدرة ، وعلى المقدور الكائن بالعلم ، ويتضمن الإرادة عقلا ، والقول نقلا . والمراد بالقدر : حكم الله ، وقدّر الله الشيء بالتشديد قضاه ، ويجوز بالتخفيف .
وحاصله : وجود شيء في وقتٍ وعلى حالٍ بوفق العلم ، والإرادة ، والقول .
الفرق بين القضاء والقدر :
قال العلماء : القضاء هو : الحكم الكلي الإجمالي في الأزل ، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله . وقيل : القدر هو : التقدير ، والقضاء : هو التفصيل والقطع ، فالقضاء أخص من القدر ، لأنه الفصل بين التقدير ، فالقدر كالأساس ، وذكر بعضهم أن القدر بمنزلة المُعد للكيل ، والقضاء بمنزلة الكيل .
وجوب الإيمان بالقدر ومراتبه :
النصوص في وجوب الإيمان بالقدر معلومة ، ومنها قول الله تعالى (إنا كل شيء خلقناه بقدر) .
(قال أهل السنة : قدَّر الله الأشياء أي : علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ، ثم أوجد منها ما سبق في علمه ، فلا يحدث في العالم العلوي والسفلي شيء إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه ، وإن خلقه ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة ، وإن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله وبقدرته وإلهامه لا إله إلا هو ولا خالق غيره ، كما نص عليه القرآن والسنة ) .
ومراتب القدر أربع يجب الإيمان بها جميعها وهي : العلم ، والكتابة ، والمشيئة ، والخلق والتقدير ، والإنسان له مشيئة وإرادة لكنها خاضعة لمشيئة الله تعالى وإرادته (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) .
الأدلة على النهي عن الخوض في القدر والتعمق فيه :
1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا ، وإذا ذكر القدر فأمسكوا .
المناقشة : هو حديث ضعيف .
الجواب : أنه روي من طرق يقوي بعضها بعضا .
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر ، فغضب حتى احمر وجهه ، حتى كأنما فقيء في وجنتيه الرمان ، فقال : أبهذا أمرتم ، أم بهذا أرسلت إليكم ؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر ، عزمت عليكم ، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه .
فغضب لما رآهم يتجادلون في القدر ، وسبب غضبه أنه كره أن يفضي ذلك إلى الاختلاف والتفرق ، وأن يؤدي إلى الانحراف العقدي ، (لأن القدر سر من أسرار الله تعالى ، وطلب سره منهي ، ولأن من يبحث فيه لا يأمن من أن يصير قَدَريا أو جبْريا ، والعباد مأمورون بقبول ما أمرهم الشرع من غير أن يطلبوا سر ما لا يجوز طلب سره ) .
3- وورد : القدر سر الله . وهذا القول مأثور عن السلف وبعض العلماء ، وروي مرفوعا ، ولذلك قالوا : إن الله تعالى له في القضاء والقدر حِكم وأسرار يعلمها سبحانه ، فلا يجوز التعمق فيه ، وأن ذلك سبب الهلاك والزيغ .
وفي طبقات الحنابلة : (الكلام والجدل والخصومة في القدر منهي عنه عند جميع الفرق ، لأن القدر سر الله ، ونهى الرب -جل اسمه- الأنبياء عن الكلام في القدر ، ونهى النبي عن الخصومة في القدر ، وكرهه أصحاب رسول الله والتابعون ، وكرهه العلماء وأهل الورع ، ونهوا عن الجدال في القدر ، فعليك بالتسليم والإقرار والإيمان ، واعتقاد ما قال رسول الله في جملة الأشياء واسكت عما سوى ذلك) .
ولهذا كله فلابد من التسليم ، قال الإمام أبو المظفر السمعاني : سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة ، دون محض القياس ومجرد العقول ، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة ، ولم يبلغ شفاء النفس ، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب ، لأن القدر سر من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الأستار ، اختص الله به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم ، لما علمه من الحكمة ، وواجبنا أن نقف حيث حد لنا ولا نتجاوزه ، وقد طوى الله تعالى علم القدر على العالم ، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب ، وقيل : إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ، ولا ينكشف قبل دخولها ، والله اعلم .
3- ما شجر بين الصحابة .
ما شجر أي : ما وقع بينهم من الاختلاف ، يقال : شجر الأمر يشجر شجورا إذا اختلط ، واشتجر القوم وتشاجروا : إذا تنازعوا واختلفوا ، و المشاجرة المنازعة ، وفي التنزيل العزيز (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) . فلا يحكى ما وقع من الخلاف بينهم ما يخشى منه أن يملأ القلوب على بعضهم ، والذي يذكر منه عند الحاجة إليه لا يكون على وجه التنقص والسب ، فسبهم منهي عنه ، كما يراعى حال المتلقي ، والعموم والخصوص .
قال صاحب القوانين الفقهية : (وأما ما شجر بين علي ومعاوية ومن كان مع كل منهما من الصحابة فالأولى الإمساك عن ذكره ، وأن يذكروا بأحسن الذكر ، ويلتمس لهم أحسن التأويل ، فإن الأمر كان في محل الاجتهاد ، فأما علي ومن كان معه فكانوا على الحق ، أنهم اجتهدوا فأصابوا فهم مأجورون ، وأما معاوية ومن كان معه فاجتهدوا فأخطأوا فهم معذورون ، وينبغي توقيرهم وتوقير سائر الصحابة ومحبتهم ، لما ورد في القرآن من الثناء عليهم ولصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : الله الله في أصحابي ، لا تجعلوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ) .
وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين ؟ فقال : تلك دماء كف الله عنها يدي ، فلا أحب أن يلطخ بها لساني .
فالصحابة وإن كنا لا ندعي فيهم العصمة ، لكن لا يجوز الخوض فما شجر بينهم ، وأما علم الجرح والتعديل فلا يدخل في هذا الباب للحاجة إليه ، وأما الصحابة فكلهم عدول .
وأسباب النهي عن الخوض فيما شجر بينهم ، وكتمانه عن العامة وآحاد العلماء ما يلي :
1- أن أكثر ما يروى من ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب . 2- لتتوفر القلوب على محبتهم والترضي عنهم ولا تشحن ببغض أحدٍ منهم . 3- أنه لا فائدة في بث ما جرى بينهم ، خاصة وأن الاختلاف والنزاع لا يستغرب وقوعه بين البشر ، فقد تكلم خلق من التابعين بعضهم في بعض وتحاربوا ، وأيضا فإن لهم سوابق وأعمال مكفرة وجهاد محاء وعبادة ممحصة .
4- ما لا يستوعبه العامة أو بعض المخاطبين .
فمع أن نشر العلم مطلوب ، وذكر النصوص والحقائق حسن ، لكن الناس ليسوا على درجة واحدة في الفهم والرويّة ، فربما طرق سمع بعضهم كلام يكون سببا في فتنته وضلاله ، ولهذا قال العلماء : لا ينبغي ذكر ما لا تحتمله عقول العامة ، أو يكون سببا في ترك العمل والكسل ، ونحو ذلك من الآثار السيئة . قال ابن مفلح : فالحذر الحذر من مخاطبة من لا يفهم بما لا يحتمل . وقال ابن الجوزي : ولا ينبغي أن يملي ما لا يحتمله عقول العوام . وذكر العلماء في آداب المفتي أنه لا يلزمه جواب ما لا يحتمله السائل .
الأدلة :
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرَّحل قال : يا معاذ بن جبل ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك ، قال : يا معاذ ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا ، قال : ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه ، إلا حرمه الله على النار ، قال : يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا ؟ قال : إذا يتكلوا ، وأخبر بها معاذ عند موته تأثما .
فخص بذلك معاذا ، وإنما لم يذكره معاذ إلا عند موته ، لأن النبي لم يأذن له في ذلك لما خشي تنزيله غير منزلته ، وعلَّمه معاذا لأنه من أهله ، فلا ينبغي أن يذكر الغرائب إلا بعد إحكام الأصول ، وإلا دخلت الفتنة . فجُعل إلقاء العلم مقيدا ، فرُب مسألة تصلح لقوم دون لقوم ، وقد قالوا في العالم الرباني إنه الذي يعلم بصغار العلم قبل كباره ، فهذا الترتيب من ذلك .
( ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره ، وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام ، بل ذلك ينقسم ، فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة ، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق ، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص ، ومن ذلك تعيين هذه الفرق فإنه وإن كان حقا فقد يثير فتنة كما تبين تقريره ، فيكون من تلك الجهة ممنوعا بثه ، ومن ذلك : علم المتشابهات والكلام فيها ، فإن الله ذم من اتبعها ، فإذا ذُكرت وعُرضت للكلام فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه ) .
2- قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ علقه البخاري .
والمراد بقوله (بما يعرفون) أي يفهمون . وقوله (ودعوا ما ينكرون) أي : يشتبه عليهم فهمه .
وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة . وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في الغرائب ، ومن قبلهم أبو هريرة كما في حديث الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن ، ونحوه عن حذيفة ، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين ، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي ، وضابط ذلك : أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد ، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب . ولذلك قال العلماء مثلا : يجتنب الخطيب في خطبة الجمعة الكلمات المشتركة ، والبعيدة عن الأفهام ، وما يكره عقول الحاضرين .
3- قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنة .
قال الشاطبي : قال ابن وهب : وذلك أن يتأولوه غير تأويله ويحملوه إلى غير وجهه ، وعن كثير بن مرة الحضرمي أنه قال : إن عليك في علمك حقا ، كما أن عليك في مالك حقا لا تحدث بالعلم غير أهله فتُجهل ، ولا تمنع العلم أهله فتأثم ، ولا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك ، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك .
لأن للعلوم دقائق نهى العلماء عن الإفصاح بها خشية على ضعفاء الخلق ، وأمور أُخر لا تحيط بها العبارات ولا يعرفها إلا أهل الذوق ، وأمور أُخر لم يأذن الله في إظهارها لحكم تكثر عن الإحصاء . ولذلك فقبل الكلام في مسألةٍ ما ينبغي النظر في العواقب والمآلات ، وكم من مسألة نص العلماء على عدم الإفصاح بها ، خشية على إفضاح من لا يفهمها ، وهذا الشافعي –رحمه الله- يقول إن الأجير المشترك لا يضمن ، وكان لا يبوح به خوفا من أجير السوء . وكان -رحمه الله- يذهب إلى أن القاضي يقضي بعلمه ، وكان لا يبوح به مخافة قضاة السوء .
وما ذاك إلا لاختلاف الناس في قوة إيمانهم ومداركهم .
ولا يقتصر هذا على القول ، بل حتى في الأفعال والتعامل ، فقد كان صلى الله عليه وسلم مثلا يعطي بعض الناس ويمنع غيره ، وربما قبل الصدقة من أحدهم بكامل ماله ومنع غيره ، وهكذا . وفي الترك ، فربما ترك الأمر المحبوب مراعاة لعقول البعض ، فقد ترك هدم الكعبة لكون بعضهم كان حديث عهد بشرك ، فقد روى الأسود قال : قال لي ابن الزبير : كانت عائشة تسر إليك كثيرا فما حدثتك في الكعبة ؟ قلت : قالت لي : قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم قال بن الزبير (بكفر) لنقضت الكعبة ، فجعلت لها بابين ، باب يدخل الناس ، وباب يخرجون ، ففعله ابن الزبير . فهذا في الفعل وتركه ، وما سبق في القول .
ولأجل مراعاة العواقب ودرء المفاسد قال العلماء : للمفتي رد الفتيا إن خاف غائلتها .
3- عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم ما يعزب عنهم ، ويشق عليهم . وعن ابن عمر –رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أمرنا معشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم . وكلا الحديثين ضعيف ، لكن يغني عنهما ما سبق من الأحاديث الصحيحة .
تنبيه :
ليس معنى ذلك أن يترك العالم بيان الحق ، أو يعتقد أحد أن خطاب الشرع ليس لجميع الناس ، قال ابن تيمية –رحمه الله- : (وأما الحديث الثاني وهو قوله : [ أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم ] فهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين الذين يعتمد عليهم في الرواية ، وليس هو في شيء من كتبهم ، وخطاب الله ورسوله للناس عام يتناول جميع المكلفين ، كقوله (يا أيها الناس) (يا أيها الذين آمنوا) (يا عبادي) (يا بني إسرائيل) ، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الناس على منبره بكلام واحد يسمعه كل أحد ، لكن الناس يتفاضلون في فهم الكلام بحسب ما يخص الله به كل واحد منهم من قوة الفهم وحسن العقيدة ، ولهذا كان أبو بكر الصديق أعلمهم بمراده ) .
ومما ينبغي تجنبه : مسائل الكلام ، فقد ذكر العلماء في آداب المفتي ما يلي :
ليس له أن يفتي في شيء من مسائل الكلام مفصلا ، بل يمنع السائل وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلا ، قال في المبدع : ولا تجوز الفتوى في علم الكلام بل نهي السائل عنه والعامة أولى ، ويأمر الكل بالإيمان المجمل وما يليق بالله تعالى .
وعموما إنما يكون الاهتمام بما يفيد ، ويجتنب ما لا فائدة فيه ، ولذلك قالوا : للمفتي أن يمتنع عن الجواب في بعض الحالات ومنها :
جواب ما لم يقع ، فلا يلزمه ، لأن السؤال عما لم يقع مكروه ، ومما يدل على كراهة السؤال عن الشيء قبل وقوعه قوله تعالى (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) ، وكان عليه السلام ينهي عن قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال ، وفي لفظ (إن الله كره لكم ذلك) ، وقد نهى عمر رضي الله عنه عن السؤال عن الشيء قبل وقوعه فقال : أحرج بالله على رجل سأل عما لم يكن ، فإن الله قد بين ما هو كائن . لكن يستحب إجابة السائل عما لم يقع ، لئلا يدخل في خبر (من كتم علما سئله) الحديث .
ومنها : جواب ما لا نفع فيه ، فلا يلزمه ، لخبر ابن عباس t أنه قال عن الصحابة : ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم ، وسئل أحمد عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم ؟ فقال للسائل : أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا ؟ . وسئل عن مسألة في اللعان فقال : سل رحمك الله عما ابتليت به . وقال ابن عباس لعكرمة : من سألك عما لا يعنيه فلا تفته ، وسأل مهنا أحمد عن مسألة فغضب وقال : خذ ويحك فيما تنتفع به ، وإياك وهذه المسائل المحدثة ، وخذ فيما فيه حديث .
الخاتمة
لا ينبغي الخوض في بعض الأمور ، بعضها لا ينبغي الخوض فيه مطلقا ، وبعضها لا ينبغي أن يذكره أو يفيض فيه أمام العامة ، ومن تلك الأمور ما يلي :
1- ذات الله تعالى وصفاته ، فلا يُبحث في الكيفية ، ولو لم يكن ذلك علانية ، لأنه لا يُستطاع الوصول إلى حقيقتها وكنهها ، كما تدل على ذلك الآيات ، والأثر عن مالك بن أنس (رحمه الله) .
2- لا ينبغي الخوض في الأمور الغيبية وغيرها مما لا يستوعبه عقول العامة ، ولا ينبغي أن يثار أمامهم
3- الكلام في القدر مزلة أفهام ، فالتعمق فيه لا يفيد ، بل قد يؤدي للانحراف لمذهب القدرية أو الجبرية .
4- الخوض فيما شجر بين الصحابة مما يوغر القلوب على بعضهم ، ويجر إلى سبهم ، فلا يثار أمام الناس ، ويجوز لمن أمن على نفسه وكان منصفا وتجرد عن الهوى أن يطالع ذلك خلوة .
5- الخوض في علم الكلام وكل ما يقوي البدعة ، أو البدء بكبار المسائل مما يستصعب على المبتديء فهمه وتقبله .
6- لا ينبغي الخوض علانية فيما قد يؤدي لآثار سيئة كترك العمل ، ولا يذكر النص أمام من يخشى عليه استغلاله لأغراض سيئة كسفك الدماء ، أو التهاون بحقوق الناس ، وكذلك الفتوى إذا لم تؤمن غائلتها ، أو أدت إلى إساءة الظن بالقائل . ولكن يجب التنبه إلى أن ذلك لا يعني كتمان العلم فإن كتمانه محرم ، فلا يجوز السكوت عن بيان الحق إلا لسبب وضرر محقق ، أو يغلب على الظن وقوعه . هذه بعض الأمور التي ينبغي الحذر عند الرغبة في الحديث فيها ، والنظر إلى العواقب والمآلات .
هذا آخر ما تيسر جمعه ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم ،،
المفضلات