سامح المحاريق - لا يظهر جوهر الصيام وحكمته ودوره في تشكيل الشخصية الإسلامية، والانسانية بسهولة ؛ وهناك من يعتقد أن الصوم هو لغاية محددة وليس غيرها،..عبادة او تواصل بين العبد المؤمن وخالقه.
وهم بذلك يتناسون أن الصيام هو عبادة مهمة وليس مجرد» معاملة»، فالمعاملات تنطوي على حقوق الآخرين، ومنها التصرف حيال الفقراء والمحتاجين والمعوزين، أما العبادة فهي علاقة بين العبد وربه عزوجل، والعبادات تنصرف إلى نفس الإنسان، بغاية تهذيبها وتدريبها على التعالي عن الشهوات والنزعات المقيمة فيها.
ما هو الصيام
الصيام هو الامتناع عن الشراب والطعام وممارسات أخرى، ومنها أيضا اللغو والكلام فيما لا ينفع أو يضر، وفترة الإفطار ليست مشاعا لممارسة كل ما يمتنع عنه الصائم طيلة يومه، وإنما هي استراحة لتمكينه من المواصلة في عبادته، فليس ممكنا أن تستمر حالة الإمساك عن الطعام والشراب بصورة مستمرة، ويعني الإفطار أن يحصل الإنسان على أقل القليل مما يمكنه من مواصلة حالة الإنقطاع عن شهوات الدنيا وصغائرها، وليس التوجه بكثير من النهم إلى تناولها، فذلك أمر لا يستوي مع فكرة الصيام أصلا، فالصيام هو لشهر رمضان بأكمله، يعيش فيه الإنسان حالة كاملة من التواصل مع ذاته المجردة والعارية من الغرور والكبر والعنجهية، ويتعلم كيف الإنسان يمكن أن يواصل مسيرته في الحياة بالقلة المتاحة، وهو الأمر الذي ينقي الإنسان ويجعله يتوجه بتفكيره إلى أمور أكثر عمقا في حالة من التدبر والتأمل، وهو الأمر الذي يتطلب الاعتدال، ولا يمكن أن يستوي أو يعمل مع التخمة والإفراط.
..ولعلنا في زمن يقول انه من الأخطاء التربوية أن نوجه الناس الاغنياء للصوم بحجة أن يشعروا بمعاناة الفقراء، وعلى الرغم مما يحتويه هذا الإرشاد من حكمة في زمن يتزايد فيه الفقر، وأحيانا الجوع في بعض من مناطق العالم الإسلامي،والعالم كافة ،الا ان للصوم مشروعية تجمع الاغنياء والفقراء.
الصائم هو كذلك في الإمساك والإفطار، ولكن واقع الأمر أنه يفقد حالة الصيام من ناحية الجوهر في العبادة مجرد أن يؤذن لصلاة المغرب، يبدأ في التناول النهم للأطعمة المتعددة الأصناف، وتتحول الموائد في رمضان إلى فرصة لاستعراض مهارات الطهي لدى ربات المنازل، مترافقة بطقوس لا تعتبر يومية في حياتنا، مثل الحلويات الدسمة، وبالتالي، فإن الخروج من حالة الإمساك يأتي بالإغراق في تناول الطعام، وهو الأمر الذي على الرغم من عدم وجود سند شرعي لتحريمه، إلا أنه من الناحية العقلية يجعل الصيام يؤول إلى محصلة (صفرية) فالمجاهدة في النهار، تتحول إلى إشباع مفرط في الليل، وكأنك يا أبا زيد !.
الإعتدال والتوازن
الإسلام أصلا؛ يتخذ موقفا صريحا من الإفراط، ويدعو للاعتدال والتوازن، ولا يوجد في عالم اليوم أكثر فجاجة من بواقي الطعام التي تتكدس على الموائد بينما مئات الملايين من البشر لا يجدون ما يكفيهم من الطعام، والمسلم تمكن من قيادة العالم لقرون لأن طبيعته النفسية التي تربت على مبادئ الإسلام جعلته يشعر بالآخر، ويحس بمواجعه وهمومه.
ولذلك تقدم الإسلام في أفريقيا وآسيا دون وجود الفتوحات العسكرية، وإنما بمجرد ما رآه أهالي ماليزيا وأندونيسيا والهند والفلبين وتنزانيا وتشاد ومالي والنيجر وغيرها من الدول من ممارسات المسلمين وأفعالهم، ولو أنهم رأوا في المسلمين رجالا مقبلين على الدنيا، ومستعدين لأن يبذلوا كل شيء من أجل مغانمها لما دخلوا في الإسلام أصلا، ولأخذوا منه موقفا سلبيا كالذي اتخذوه من الاستعمار.
طوابير السيارات التي تدلف تباعا إلى عمق المولات التجارية، وتتحول إلى عربات تسوق مليئة باحتياجات بعضها ضروري، وكثيرها ليس ضروريا أو لازما، هي ليست سوى مظاهر لتحويل العبادات الدينية إلى مناسبات استهلاكية، بنفس الطريقة التي جرى من خلالها تحويل الأعياد إلى ذلك، وإذا كانت الأعياد تتخذ رخصة لما تحمله من فرحة لمعتنقي أي ديانة احتفاء بمناسبة معينة في تاريخهم أو عقيدتهم، فإن ذلك لا ينطبق على شهر لعبادة تقوم على حرمان النفس، بغاية ترويضها وتهذيبها، وكسر الغرور والكبر في داخلها، وعدا عن تناقض ذلك مع المبادئ الإسلامية، فإنه أيضا يحمل تناقضا كبيرا مع الرشد الاقتصادي، فيتسبب في غلاء ليس يقوم على أساس، والطلب المبالغ فيه يذهب معظمه في صورة أطعمة فسدت ولم يتم الاستفادة منها نتيجة زيادة كمياتها عن الحاجات الطبيعية.
تحقيق غايات سامية
التنوع في مائدة الإفطار، يمكن أن يكون هدفه تعويض الجسم عن بعض العناصر الضرورية مثل السوائل تحديدا، والسكريات في مرتبة تالية، ولكن البروتين والدهون يمكن أن ترفد الجسم لعدة أيام دون وجود مشكلات كبيرة، أو تهديد لاحتياجاته الحيوية، وإذا كان ضروريا من التنوع الذي يعتبره البعض أحد لوازم رمضان ومظاهره المستقرة.
ليكن ذلك التنوع قائما على الحاجات الحقيقية والفعلية، وليس على المبالغ في الكميات لمجرد الإحساس بأن رمضان هو احتفالية متواصلة، سواء كان ذلك والأسرة منفردة، أو أنها تقيم ولائمها لأقاربها وأصدقائها، فذلك يؤدي إلى خروج صريح عن المغزى من شهر رمضان ومن حكمة الصوم نفسها.
وعلى ذلك يجب أن يتوجه الوعاظ والدعاة بأن يذكروا الناس بأن العبادة ليست مجرد طقوس ترتبط بالوقت والممارسات، وإنما هي أيضا وسيلة من أجل تحقيق غايات سامية، والله عزوجل لم يفرض الصوم لمجرد أن يجعل البشر يمسكون عن الطعام والشراب، وإنما من أجل أن يكونوا أكثر إنسانية وسلاما مع الذات والآخرين.
المفضلات