ابواب
فيض من ذاكرة.. كانت الجامعة الأردنية عالمنا للنهوض الفكري والتربوي
نائلة شقم-بإلحاحٍ وإصرار يَستلبُ الوقت دون أن نشعر بما يمضي من أيامنا وسنين عمرنا، وحين يترجل فارسٌ أو فارسةٌ ممن نعرف ونقدّر من على صهوة الحياة، نلجأ إلى صور الأبيض والأسود نقلّبها وإلى الذاكرة ننبشها في محاولةٍ للإمساك بما تبقى من خيوط «في اللجوء إلى الذاكرة حزنٌ وشيءٌ من الوداع». وفي مطلع هذا العام رحل عن دنيانا أستاذنا وأول من درّس علم النفس في الجامعة الأردنية، الدكتور فاخر عاقل، وقد نقل النبأ كتّابٌ أردنيون وقدموا إضاءات في جوانب من حياته العلمية الثريّة في دمشق وإربد «معهد المعلمين – حوارة» وعمان «الجامعة الأردنية»، وقد حفزني ذلك للعودة إلى الوراء، إلى بدايات الجامعة الأردنية وتحديداً كلية الآداب «النواة» والتوقف عند بعض المعالم والتفاصيل.
إستعانت الجامعة للنهوض بمشروعها الفكري والتربوي بالخيرة من الأساتذة الأردنيين وأشقاء لهم من أرجاء الوطن العربي، ولما كانت السنة الدراسية الأولى من البكالوريوس سنة عامة شاملة ذات فصلين تدرس فيها كافة المواد، اللغة الإنجليزية وآدابها (درسها لنا أستاذ أمريكي زائر وأستاذة بريطانية) واللغة العربية وآدابها بالإضافة إلى التاريخ والجغرافية والفلسفة وعلم المنطق والتربية، وقد أتاح لنا ذلك أن نحظى بتدريس جُل هذه النخبة، الدكتور العلامة ناصر الدين الأسد (وكان رئيساً للجامعة) والدكتور هاشم ياغي والدكتور عبد الكريم خليفة والدكتور (شيخ المعلمين) عبد الكريم غرايبة والدكتور المفكّر فهمي جدعان والدكتور كمال دواني، وكان الأساتذة الأكارم الدكتور نعيم الرفاعي والدكتور نبيه عاقل والدكتور عمر الحكيم المدرسون في جامعة دمشق يأتون في نهاية كل أسبوع من دمشق للتدريس في الجامعة.
أما في السنة الثانية فقد حظينا نحن الذين اخترنا مادة علم النفس والتربية تخصصاً لنا بتدريس الدكتور فاخر عاقل، الأنيق في ملبسه المتأنق في كلامه وكذلك الأساتذة، الدكتور السوري الدمث نعيم الرفاعي والدكتور المصري محمد عبد السلام أحمد والدكتور اللبناني جورج شهلا، ومن الأردنيين الأساتذة الأفاضل الدكتور عبد الرحمن عدس (الذي أصبح فيما بعد رئيساً لقسم علم النفس) والدكتور هاني عبد الرحمن والدكتور أحمد أبو هلال وآخرون.
كانت الجامعة الناشئة محل رعاية واهتمام جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال – طيب الله ثراه- ولا عجب، فهي غرس يديه وإرادته بأن يكون للأردن جامعة، وقد عهد لكوكبة من رجالات الدولة – مجلس الأمناء- بمتابعة شأنها والنهوض به، ولا ريب أنها كانت محل إعتزازه، فقد كنا نرى بعض ضيوفه من قادة العالم يأتون لزيارتها ومنهم على سبيل المثال لا الحصر حاكم إمارة أبو ظبي في ذلك الحين، الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، وكان ذلك يعزز إحساسنا بأننا وفقنا في إختيارنا لها، فهي الأقرب والأحدث والأجمل. وقد ظل جلالته يرعى أفواج خريجيها بنفسه لسنوات عديدة لاحقة قبل أن تتوالد الكليات وتزداد أعداد الخريجين.
ولأن الذكريات تتداعى والجميل بالجميل يذكر، فقد عشنا لحظات زهو تاريخية لا تنسى استقرت في عمق ذاكرتنا القومية، وذلك عندما قامت الجامعة بتنظيم رحلة إلى مصر الشقيقة في شباط من العام 1965، وكانت تلك أول رحلة تقوم بها الجامعة خارج الأردن، رافقنا فيها الدكتور القدير محمد خير مامسر مشرفاً ومسئولاً، كما شارك في الرحلة الدكتور العالم محمود السمرة وزوجته الفاضلة، وقد استضافتنا واحتفت بنا وزارة التعليم العالي المصرية وأعدت لنا برنامجاً حافلاً زرنا خلاله المعالم الأثرية، الأهرامات وأبو الهول والمتحف المصري «الأنتكخانة» والقلعة والمعالم السياحية مثل حي الحسين وسوق خان الخليلي والموسكي، كما شاهدنا مسرحية استعراضية في مسرح البالون ومسرحية كوميدية لماري منيب وعباس فارس، وذهبنا إلى الفيوم حيث بحيرة قارون وحلوان والقناطرة الخيرية حيث الحديقة اليابانية، أما في الإسكندرية فقد زرنا قصر المنتزه والمتحف المائي، وفي يوم لاحق زرنا مدينة بور سعيد (مدينة البطولة والمقاومة إبان العدوان الثلاثي على مصر)، ولكننا لم نتمكن من زيارة الأقصر وأسوان (السد العالي) لضيق الوقت وبعد المسافة. وذات صباح جميل، قيل لنا بأن جلالة الملك الحسين سيأتي في زيارة مفاجأة لأخيه سيادة الرئيس جمال عبد الناصر، وأن الحافلة ستأخذنا إلى المطار لإستقباله، وهناك وقفنا في مكان غير بعيد عن المنصة، وأترك للقارئ أن يتخيل مدى الإنفعال والزهو اللذين أحسسنا بهما عندما تقدم الزعيمان نحونا بعد إنتهاء مراسم الإستقبال الرسمية لنحظى بشرف مصافحتهما، وقد إلتقط زملاء وزميلات لنا ممن كانوا يحملون كاميرات الصور التذكارية لتلك المناسبة الرائعة.
كانت الجامعة الفتية غير بعيدة عن الحراك الثقافي والإجتماعي والسياسي الذي يدور خارج أسوارها فقد كانت تقام فيها ندوات ثقافية ومنها ندوة جمعت بعضاً من الطلاب والطالبات عام 1964 أدارت الحوار فيها وسجلته مندوبة مجلة شهرزاد اللبنانية في عمان، السيدة نداء أبو سعود، ونشرت في المجلة مصحوبة بالصور تحت عنوان «من الحريم إلى الحرم الجامعي»، وقد أعيد نشر هذه الندوة مؤخراً في جريدة الرأي. وكانت تقام في الجامعة أيضاً، أمسيات فنية وحفل في بداية العام للطلبة الجدد ومهرجان للربيع في نهاية العام الدراسي هذا عدا عن الرحلات الترفيهية لكافة مدن المملكة (الضفة الشرقية والضفة الغربية آنذاك) ومنها رحلة إلى مناطق ما كان يعرف بالخطوط الأمامية (جنين وقلقيلية وطولكرم) حيث زرنا معسكراً للجيش العربي المرابط هناك وتناولنا فيه طعام الغداء، ثم إنتقلنا لاحقاً إلى كلية بيرزيت الجامعية حيث جرت مباريات تنس الطاولة بين طلبتها وطلبة جامعتنا ذكوراً وإناثاً. أما بالنسبة للحراك السياسي، فقد تظاهر طلابها داخل الحرم الجامعي منددين بالإعتداء الصهيوني الغاشم على قرية السموع في قضاء الخليل.
سلامٌ على الدكتور فاخر عاقل –رحمه الله- وسلامٌ لأساتذتنا الذين لا يزالون على قيد الحياة، متعهم الله بالصحة والعافية، والشكر للأقدار التي هيأت لنا وجودهم لننهل ولو النزر اليسير من غزير علمهم وفيض معرفتهم، والتمنيات الطيبة لجامعتنا الحبيبة (التي تحتفل هذه الأيام بتخريج الفوج الخامس والأربعين) بأن تحظى دائماً بأمثال هذه الصفوة المعطاءة لتبقى دوماً في الطليعة والمكانة التي تليق بها.
من خريجات الجامعة الأردنية، كلية الآداب، الفوج الثاني
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رمز الوفاء
المفضلات