كتب - جهاد المومني - الاصلاح السياسي بتشريعاته المختلفة والتعديلات الدستورية ليس سوى احد جوانب الاصلاح الشامل في الاردن وإن كان الأهم والاولى ويمثل قاعدة الاصلاحات الاخرى الاقتصادية والادارية والاجتماعية ,وبنفس الوقت لا يجوز ان نغفل اصلاحات من صميم ثقافة المجتمع وتقاليده وقد بات من الضروري تغييرها او تكييفها مع تطورات العملية الاصلاحية الشاملة في البلد ,فاذا كانت الدولة قد هيأت المجتمع نحو حكم الاغلبية الناضجة والايجابية وصاحبة البرامج والافكار الخلاقة من خلال الاحزاب وبتشريعات ناظمة للعمل السياسي ,واذا كانت الدولة بسلطاتها الثلاث تواصل العمل على طريق الاصلاحات الادارية ضمن مشروع الهيكلة ,واذا ما اضفنا الى ذلك الاصلاحات الاقتصادية المشروع القديم الجديد الذي لم ينقطع العمل عليه منذ سنوات طويلة ,فان الأوان قد حان لتنفيذ الشق الاصلاحي المتعلق بالناس اصحاب المصلحة الاولى والرئيسية في كل خطوة اصلاح قطعتها الدولة حتى الآن ,وفي كل خطوة ستقطعها نحو النموذج الاردني المنشود المتمثل بتشكيل الحكومات على اسس حزبية اصلاحية وبشرط نضوج هذه الاحزاب وبرهنتها عن طريق صناديق الاقتراع نيلها لثقة الاغلبية من الاردنيين .
الشعب معني بالاصلاح ويطالب بسقف عال من التغيير ,وهذا الشعب الحيوي المتجدد في تكيفه مع الحداثة وتطورات العصر مطالب هو الآخر - كما الدولة - باصلاح عاداته وتقاليده وثقافته الاستهلاكية بغير تخطيط ,فمن غير المعقول اقرار تشريعات جديدة معاصرة وتعديل القديمة لتحديثها وتوسيع دائرة الحريات والحقوق ,بينما الشعب لا يزال يرزح تحت وطأة ما كان متعارف عليه من ثقافة مجتمعية يسمونها ظلما اصالة واحيانا عراقة ,وما هي كذلك باي حال ,فثمة تقاليد يجب ان تتغير لانها لا تمت للاصالة والعراقة بصلة, ولا هي من الثوابت التي تستحق المحافظة عليها وعدم اخضاعها للحوار الوطني بهدف اصلاحها واعادة النظر فيها وكبح اثارها السلبية على الاجيال اللاحقة ,وثمة انماط من الحياة في الاردن اوقعت ضررا فادحا بعملية الاصلاح السياسي فوقفت ضده وناصبته العداء فيما سمي بقوى الشد العكسي ,وبالمناسبة فان هذه القوى لا تنتمي الى مجتمع الغالبية الاردنية وهي ليست منتجا عشائريا او جهويا ,هي اقلية محبطة مصدرها كافة الوان الطيف الاردني ,ولعل من الانصاف القول ان قوى الشد العكسي تتمركز في العاصمة أكثر منها في القرى والبوادي دون ان يكون لذلك علاقة بالثقل السكاني ,فالثابت ان قوى الشد العكسي تولد حيث المصالح وتنشأ عندما تتعرض هذه المصالح للخطر ,وما دامت العملية الاصلاحية هي الخطر الذي يهدد مصالح الجهات والتكتلات المستفيدة من بقاء القديم, إذن فمن الطبيعي ان تنشأ هذه القوى واللوبيات الضاغطة في العاصمة حيث المال والمدارس الفكرية والاحزاب السياسية والتكتلات الاقتصادية المتضادة .
التغييرات المجتمعية المطلوبة يجب ايقاعها في وعي الناس ازاء مختلف القضايا ,ومنها ما يجب ان تجريها التكتلات الاقتصادية مساهمة منها في حماية المجتمع نفسه رغم نظرتها الاستهلاكية الى الناس وتعاملها مع المواطن على انه زبون ليس أكثر , وعلى قادة هذا التكتل صاحب القرار الاقتصادي ان يحدث نظرته الى المجتمع بعيدا عن معادلة الربح المادي حتى لو كان هذا هو الهدف الاول والاخير لكل مشروع تجاري ,على اصحاب المال ان يساهموا في احلال ثقافة جديدة وذكية للاستهلاك والتخلص من ثقافة الاستغفال لتحقيق الربح ,وبنفس الوقت المساهمة في نشر القيم المعاصرة للتسوق وانفاق المال بتعزيز قيمة المدخرات عند الاسرة وحمايتها من الهدر ,لان ما تملكة الاسرة وتنفقه يمثل اساس المعادلة الاقتصادية وقاعدة المتاجرة ,فبدون مقدرات الناس لا يتحرك السوق ولا ينمو الاقتصاد ولا ترد خزينة الدولة عائدات ضريبة مما ينعكس على ما تقدمه من خدمات , وبامثلة واقعية فأن انتشار الاسواق التجارية يجب ان يقابل بمنافسة حقيقية لا ان تتحالف اللوبيات الاقتصادية وتتفق على كيفية السطو على مقدرات الاسرة الاردنية بالاتفاق على رفع الاسعار مثلا ,فليست هذه هي التقاليد التجارية في المجتمعات الغربية حيث يكون المستهلك هو المستفيد الاول من اشتداد المنافسة وكثرة الاسواق ,فلماذا هذه الظاهرة تغيب عن مجتمعنا ,ثم ان الدول الغربية وحكوماتها صاحبة الولاية لا تسمح للمراكز التجارية بالعمل وفق انظمتها الخاصة عندما تتعارض هذه الانظمة مع متطلبات العمل والانتاج والبناء ومع ثقافة العالم الحر لكنه المنضبط والمنظم ,فمثلا لا تجد في اية دولة غربية منتجة اسواقا تجارية ( مولات ) تفتح حتى ساعات الفجر ولا حتى الى ما بعد العاشرة مساء,فالاسواق التجارية ومحلات البقالة - ما عدا بعضها ولغايات الضرورة - تغلق جميعها في السابعة من مساء ايام العمل وتتأخر حتى التاسعة في امسيات ايام العطل ,والحكمة من ذلك توفير المال على المستهلك والتاجر ,فمتى دفع التاجر اكثر رفع الاسعار على المستهلك ومن يحتاج الى التسوق في ( المول) يمكنه ان يفعل ذلك قبل السابعة مساء ,اما من يجعل من المول مكانا للتنزه مع العائلة مستفيدا من التكييف والاروقة النظيفة ,فهذا يشكل عبئا اقتصاديا لانه يستهلك الكهرباء ويهدر اموال الناس على نوبات عمل واجور لا طائل منها مما يؤدي الى ارتفاع الاسعار نظرا لارتفاع تكاليف السلع ,كما ان هذه الظاهرة السلبية تعكس حالة استرخاء للمجتمع فيبدو وكأنه مجتمع عاطل وخامل غير منتج ,اضافة الى جملة مظاهر سلبية تنجم عن الازدحامات المرورية خارج وداخل مواقف السيارات في المراكز التجارية الكبيرة .
واذا بدأنا بالعائلة وهي اساس المواطنة ,فيجب ان نعمل على مساعدتها في الانتقال من فوضى الصرف والانفاق الى التخطيط بحيث تتضاعف قيمة الدينار قبل ان تهدره الاسرة وتنفقه بلا تخطيط وبقلة احترام للمال وهو أصل الجهد ,فالقاعدة الاقتصادية تقول ان الشخص متوسط الحال او دون ذلك لا يجوز ان يصرف بقدر ما يحتاج ,وانما بقدر ما يملك ,وليس من حقه ان يتجاوز امكانياته المالية وعلى البنوك ومؤسسات الاقراض المختلفة ان تساعده على الانضباط والعيش بامكاناته لا ان تشجعه على الاقتراض والارتهان لها ,وهذه القاعدة تصبح معكوسة عندما يتعلق الامر بالاثرياء الميسورين ,فهؤلاء يصرفون بقدر ما يحتاجون لا بقدر ما يملكون.
علينا ان نكرس ثقافة جديدة اساسها احترام الدينار وعدم تحويله الى سلع تستهلك المزيد من الدنانير كالسيارات الخردة التي يستوردها بعض التجار مستعملة توشك على البدء باستهلاك قطع الغيار ذات التكاليف الباهضة بالنسبة لدخل المواطنين زبائن مثل هذه السيارات ,فاذا اضفنا الى هذه الكلفة كلفة الوقود المرتفعة وما تمثله من عبء مالي كبير على مقدرات الاسرة الاردنية ,فأن الدولة مطالبة باجراء جراحة اصلاحية لنمط العيش للطبقة الوسطى ولو بالتضييق عليها لمنعها عن بعض السلع والمصروفات , ومن اجل انجاح اية اجراءات بهذا الصدد على الحكومات ان تؤمن الجميع بوسائل التنقل المريحة وان تلجأ الى الحلول الاشتراكية بهذا الصدد فليس القطاع الخاص جديرا بادارة كافة الشؤون وحل كافة المشاكل ولا بد من تدخل الحكومة في الكثير من الحالات كما برهنت على ذلك تجارب الدول الرأسمالية الكبرى التي اعادت بعض الدور للحكومات حتى لا يحتكر القطاع الخاص المشهد الاقتصادي بالكامل وبالاخص منافذه الى الأمن والسيادة .
الاصلاح الموازي للاصلاحات السياسية يعني ان يتهذب المجتمع بالتخلص من عيوبه وبحيث يكون كفؤا وقادرا على التكيف مع مقتضيات التغيير الشامل نحو المجتمعات المهيئة لانتاج القادة والسياسيين وهؤلاء بدورهم يتولون قيادة المجتمع نحو المستقبل الآمن النظيف من التلوث السياسي والاجتماعي والمحصن ضد النكسات والازمات على اختلافها ,مجتمع لا تكون الافضلية فيه لقضاء الوقت وانما لملئه بالعمل ,ومجتمع ينجب المبدعين اصحاب المبادرات لا المحبطين الشغوفين بالمناصب والوظائف ,مجتمع ينتج احزابا تقوم على افكاره ووعيه لا احزابا تستورد حتى الفكرة والايديولوجيا ,احزاب اصلاحية تهتم بحياة الناس وطريقة عيشهم فتقدم لهم برامج ودراسات ومبادرات حول كيفية الصرف والانفاق مبنية على معيار العمل والجهد المبذول وتضع بين يدي الناس خطوط ثقافة جديدة غير استهلاكية ولا مترجمة قبل ان تنشر الوعي السياسي وقبل التفكير بتولي السلطة لقيادة البلد .
المفضلات