ربما تحمل مقولة '' فرويد '' الشهيرة : '' إذا أردت احتمال الحياة ، فلتكن مستعدا للموت '' اجابة لتلك التساؤلات التي تفرض نفسها امام حجم الدمار الهائل الذي خلفته الحرب ، حتى وان توقفت فالمعاناة ستبقى ، وما ارتكب من جرائم بشعة واقتناص فرص العيش الآمن ، والحرمان من الاستقرار الاسري ، وما نجم من يتم وفقر وجهل وتشرد وإعاقة ، سيغير وجه الحياة داخل كل طفل واسرة وبيت وحي في القطاع ، وسيجد احد اشهر كتاب اسرائيل '' ديفيد غروسمان '' نفسه عاجزا عن اختلاق عذابات مشابهة لليهود مثل تلك التي عانى منها اهل القطاع ، ولن يكون بحوزة مؤلف ''الزمن الاصفر'' سوى ان يبحث عن لون اخر اذا اراد الكتابة عن الحرب في غزة.
كما هي الحروب دائما ، لا تنتهي بمحصلة من القتلى والجرحى يعلن عنها ، فوراء الأكمة ما وراءها ، جيل عانى شراسة المعركة ، شاهد بشرا ينزفون ، يحترقون، يتمزقون ، يتناثرون اشلاء ، عائلات تتهاوى تحت انقاض البيوت ، وطبول اجادت في قرعها آلة الحرب الاسرائيلية ليكون الصدى اعنف و اخطر بكثير.
اطفال يعايشون الحروب يكبرون قبل الاوان ، ويصبحون اكثر قدرة على التحمل والمواجهة ، و جيل الانتفاضة الفلسطينية الاولى 1987 لم يعد يخاف الموت ، وثمة قصص... لم تغب عن عيون ''محمد 15عاما'' مشاهد البيوت المدمرة، فينخرط في عملية استشهادية بعد ان يكتب وصية مؤثرة لوالديه تؤكد سطورها بأنه اكبر من سنوات عمره يطلب الرضا والسماح لانه ذهب دون وداعهما وبأن يقوم ابوه بتسديد مبلغ 5ر1 شيكل للسوبرماركت ...و...'' اما ''أم سعيد '' فلم تستطع ان تخفي خبر استشهاد زوجها عن طفلها ، لان الحياة في ظروف الاحتلال مختلفة ، واذا لم تخبره سيعرف من اخرين .
معالم جديدة لجيل عانى أهوال الحرب ، وثمة ثقافة قادمة تنذر بالعنف والتطرف ، تعتبر اسرائيل الشر الاكبر، فيما بدأ اطفال في تطوير وسائل دفاعية هذا ما افاد به تقرير تناقلته وسائل الاعلام حول الاثار النفسية للحرب ، بين فيه اطباء فلسطينيون حاجة المجتمع الى اعادة تأهيل نفسي وجسدي بخاصة في وجود الاف الجرحى والمصابين ''، فيما بدأت تظهر اعراض مقلقة للصدمة مثل الاتجاه نحو العدوانية وعدم القدرة على النوم ، التبول اللاارادي ، التلعثم في الكلام، الالتصاق بالام ، اضافة الى الخوف والاكتئاب واسترجاع صور الاحداث ،
وفي تقرير حول اثار الحرو ب قدمته للامم المتحدة المدافعة عن حقوق الاطفال '' جراسيا ماتشل '' ذكرت بان الصراع المسلح يقتل ويسبب اعاقات جسدية للاطفال اكثر من الجنود، وبينما كانت اصابات المدنيين في بداية القرن العشرين لاتتجاوز 5% ، ارتفعت خلال الحرب العالمية الاولى الى 15% وفي الثانية الى 65 % ، لتصل النسبة في حروب التسعينات الى اكثر من 90% ، وخلال العقد الماضي قتل نحو 2 مليون طفل فيما اصيب ثلاثة اضعاف هؤلاء بجراح واعاقات دائمة ، كما اجبر اخرون على مشاهدة اعمال عنف او المشاركة فيها اضافة الى حرمان كثيرين من حاجاتهم المادية والوجدانية التي تمنح معنى للحياة الاجتماعية والثقافية .
وبرغم ان الاطفال لا يجيدون فهم مبررات الحرب مثل الكبار، لكنهم اكثر من يعانون من ويلاتها ، وتشير دراسة لكل من اليونيسيف ووزارة التعليم اللبنانية من خلال 500 طفل لبناني عايشوا مذبحة قانا قبل أكثر من عشر سنوات ، بأن 30% منهم ما تزال لديهم اضطرابات في النوم، و14% يعانون من حالات اكتئاب، أما 40% فقد فكروا في الانتحار .
والحال لا يختلف لدى اطفال العراق ، الذين عانوا وما يزالون كوارث حروب ونزاعات ويقول ناجون من محرقة ملجأ العامرية وهم الان في سن الشباب ''ما تزال مشاهد موت الاهل والاحبة ماثلة في مخيلتنا ، تقتلنا كل يوم ، تصيبنا باحباط شديد ويأس من الحياة'' .
وتعتبر الموسيقى خيارا جيدا لعلاج صدمات الحروب PTSD على الاطفال ، ونفذ في العاصمة عمان برنامج لتأهيل عدد من الاطفال العراقيين ،حيث ساعدهم ذلك في تحقيق التوازن الذاتي واعادة دمجهم في المجتمع والتواصل مع الاخرين وهناك من اوقفوا علاجهم الكيماوي وخرجوا من العزلة والانطوائية واصبحوا اكثر قدرة في التعبير عن الذات .
الآثار النفسية لقصف غزة اصعب من الجراح ،والسؤال ماهي مواصفات هذا الجيل الذي عاش حربا إبادية حقيقية ؟ هذا ما ستحمله الايام القادمة؟!.
المفضلات