إن الكلام هو خاصية خصّ الله بها الإنسان دون سائر مخلوقاته ومنّ بها عليه: ﴿الرَّحْمَن عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن:1-2-3-4]. وقد جعله الله وسيلة للتواصل بين الناس؛ فبه يعرف بعضهم بعضا ويفهم بعضهم بعضا.
ولما كان الكلام وسيلتهم إلى التعارف والتآلف، كان أثره عظيما في علاقاتهم الاجتماعية والانسانية. والناس – وهم مدعوون للعيش معا – محتاجون إلى أن يكونوا آمنين مطمئنين بعضهم لبعض حتى يتحقق لهم العيش الطيب الهنيء.
ولما كان حرص الاسلام شديدا على أن ينتشر الأمان والمحبة بين الناس، جعل ما يدعو إلى تواددهم وتآلفهم كلمة إذا فشت بينهم كان معها الأمان والمحبة؛ تلك هي كلمة “السلام” التي دعا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام إلى إفشائها، حيث قال: «والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ افشوا السلام بينكم» (أخرجه مسلم).
إن وقع هذه الكلمة عظيم في النفوس. ولقد دافعت عنها الأمم ونددت بنقيضها، وكُرِّم من رفعها شعارا ودافع عن معناها في بلده أو قومه أو عشيرته؛ فحظي بلقب “رجل السلام” وامتدحه العامة والخاصة، وسجلت كتب التاريخ اسمه مقرونا بهذا المعنى السامي.
وخير من ذلك ما امتدح به الرحمن عباده في كتابه العزيز حيث قال جل وعلا: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان:63].
ولما كان هذا قولهم في الدنيا كانت التحية التي يلاقون بها في الدار الآخرة سلام: ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا﴾ [الفرقان:75]؛ فهي تحيتهم: ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ﴾ [ابراهيم:23] وتحية الملائكة لهم: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر:73]، بل وتحية رب العالمين لهم: ﴿سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس:58].
ولا عجب أن تكون تلك تحية أهل الجنة؛ وهي ألطف وألين وأطيب كلمة يسمعها سامع:﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا﴾ [الواقعة:26]!
إن الله تعالى – وهو الخبير بنفوس البشر– حثّ في ذكره الحكيم على الكلام الطيب والقول الحسن، حيث قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ [الإسراء:53]، وقال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل:125].
ويقول الله تعظيما لشأن الكلام الطيب: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر:10]! يشمل ذلك كل كلام فيه ذكر الله، وكل كلام حسن موجه للخلق.
ويثني على عباده: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ﴾ [الزمر:18]، ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج:24].
إن الكلام الطيب تلين له النفوس وتستوحش من قبيحه، وقد قيل: «من لانت كلمته وجبت محبته», وقيل:«لا أنس مع وحشة الكلام». فالمحبة قد تزرعها كلمة طيبة تلقى في القلب فتثمر حبا وعطفا وأنسا وراحة. والإسلام إنما يدعو إلى الكلام الطيب لكي يتحقق بين الناس تلك الحياة الطيبة التي لا تتحقق بغير الألفة والمودة.
إن الكلمة الطيبة رحمة، والكلمة السوء جفاء وقسوة. لذلك قال الله لنبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم في حق أصحابه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:159].
!
إن شخصا تصادفه يلقي على مسمعك كلاما طيبا يجعل قلبك يميل نحوه بالمحبة؛ وإنك لتأتلفه وتستأنسه ولست تعرفه حق المعرفة!
إ
المفضلات