{سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الاْشْقَى * الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا}.
........................................ .......... ........................................ .......... .......................
{سنقرئك فلا تنسى. إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى} هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه يقرئه القرآن ولا ينساه الرسول، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يتعجل إذا جاء جبريل يُلقي عليه الوحي فقال الله له: {لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 16 ـ 19]. فصار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينصت حتى ينتهي جبريل من قراءة الوحي ثم يقرأه، وهنا يقول: {سنقرئك فلا تنسى. إلا ما شاء الله} يعني إلا ما شاء أن تنساه فإن الأمر بيده عز وجل{يمحو الله ما يشاء ويثبت}[الرعد: 39]. {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير. ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 106، 107]. وربما نُسّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية من كتاب الله ولكنه سرعان ما يذكرها عليه الصلاة والسلام،
وقوله تعالى: {إنه يعلم الجهر} أي أن الله تعالى يعلم الجهر، والجهر: ما يجهر به الإنسان ويتكلم به مسموعاً.
{وما يخفى} أي ما يكون خفيًّا لا يُظهر فإن الله يعلمه كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} [ق: 16]. فهو يعلم عز وجل الجهر ويعلم أيضاً ما يخفى.
{ونيسرك لليسرى} وهذا أيضاً وعد من الله عز وجل لرسوله عليه الصلاة والسلام أن ييسره لليسرى، واليسرى أن تكون أموره ميسرة، ولاسيما في طاعة الله عز وجل، ولما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما من أحد من الناس إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، كل بني آدم مكتوب مقعده من الجنة إن كان من أهل الجنة، ومقعده من النار إن كان من أهل النار، قالوا: (يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل ـ يعني على ما كتب ـ قال: «لا. اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له» فأهل السعادة ييسرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسرة لليسرى} (111)وهذا الحديث يقطع حُجة من يحتج بالقدر على معاصي الله فيعصي الله ويقول: هذا مكتوب علي. وهذا ليس بحجة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له» هل أحد يحجزك عن العمل الصالح لو أردته؟ أبداً. هل أحد يجبرك على المعصية لو لم تردها؟ أبداً لا أحد، ولهذا لو أن أحداً أجبرك على المعصية وأكرهك عليها لم يكن عليك إثم، ولا يترتب على فعلك لها ما يترتب على فعل المختار لها، حتى إن الكفر وهو أعظم الذنوب، قال الله تعالى فيه: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل: 106]. إذن نقول اعمل أيها الإنسان، اعمل الخير وتجنب الشر، حتى ييسرك الله لليسرى ويجنبك العسرى، فرسول الله صلى الله عليه وسلّم وعده الله بأن ييسره لليسرى فيسهل عليه الأمور، ولهذا لم يقع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شدة وضنك إلا وجد له مخرجاً عليه الصلاة والسلام.
ثم أمره تعالى أن يذكر فقال: {فذكر إن نفعت الذكرى} يعني ذكر الناس، ذكرهم بآيات الله، ذكرهم بأيام الله، عظهم، {إن نفعت الذكرى} يعني في محل تنفع فيه الذكرى، وعلى هذا فتكون {إن} شرطية والمعنى إن نفعت الذكرى فذكر، وإن لم تنفع فلا تذكر، لأنه لا فائدة من تذكير قوم نعلم أنهم لا ينتفعون، هذا ما قيل في هذه الآية.
وقال بعض العلماء: المعنى ذكر على كل حال، إن كان هؤلاء القوم تنفع فيهم الذكرى فيكون الشرط هنا ليس المقصود به أنه لا يُذكر إلا إذا نفعت، بل المعنى ذكر إن كان هؤلاء القوم ينفع فيهم التذكير، فالمعنى على هذا القول: ذكر بكل حال، والذكرى سوف تنفع. تنفع المؤمنين، وتنفع الُمذكِّر أيضاً، فالمذكر منتفع على كل حال، والمذكر إن انتفع بها فهو مؤمن، وإن لم ينتفع بها فإن ذلك لا ينقص من أجر المذكر شيئاً، فذكر سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع.
وقال بعض العلماء: إن ظن أن الذكرى تنفع وجبت، وإن ظن أنها لا تنفع فهو مخير إن شاء ذكر وإن شاء لم يذكر.
ولكن على كل حال نقول: لابد من التذكير حتى وإن ظننت أنها لا تنفع، فإنها سوف تنفعك أنت، وسوف يعلم الناس أن هذا الشيء الذي ذكرت عنه إما واجب، وإما حرام، وإذا سكتَّ والناس يفعلون المحرم، قال الناس: لو كان هذا محرماً لذكَّر به العلماء، أو لو كان هذا واجباً لذكَّر به العلماء، فلابد من التذكير ولابد من نشر الشريعة سواء نفعت أم لم تنفع.
ثم ذكر الله عز وجل من سيذكر ومن لا يتذكر فقال: {سيذكر من يخشى. ويتجنبها الأشقى} فبين تعالى أن الناس ينقسمون بعد الذكرى إلى قسمين:
القسم الأول: من يخشى الله عز وجل، أي يخافه خوفاً عن علم بعظمة الخالق جل وعلا، فهذا إذا ذكر بآيات ربه تذكر كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًّا وعمياناً} [الفرقان: 73]. فمن يخشى الله ويخاف الله إذا ذكر ووعظ بآيات الله اتعظ وانتفع.
أما القسم الثاني: فقال: {ويتجنبها الأشقى} أي يتجنب هذه الذكرى ولا ينتفع بها الأشقى و{الأشقى} هنا اسم تفضيل من الشقاء وهو ضد السعادة كما في سورة هود: {فأما الذين شقوا ففي النار} [هود: 106]. {وأما الذين سعدوا ففي الجنة} [هود: 108]. فالأشقى المتصف بالشقاوة يتجنب الذكرى ولا ينتفع بها، والأشقى هو البالغ في الشقاوة غايتها وهذا هو الكافر، فإن الكافر يذكر ولا ينتفع بالذكرى،
ولهذا قال: {الذي يصلى النار الكبرى. ثم لا يموت فيها ولا يحيى} الذي يصلى النار الموصوفة بأنها {الكبرى} وهي نار جهنم؛ لأن نار الدنيا صغرى بالنسبة لها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أن نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة»(112)، أي أن نار الآخرة فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً، والمراد بنار الدنيا كلها أشد ما يكون من نار الدنيا فإن نار الآخرة فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً ولهذا وصفها بقوله: {النار الكبرى} ثم إذا صلاها {لا يموت فيها ولا يحيى} المعنى لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياة سعيدة، وإلا فهم أحياء في الواقع لكن أحياء يعذبون {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} [النساء: 56]. كما قال الله عز وجل {ونادوا يا مالك} وهو خازن النار {ليقض علينا ربك} يعني ليهلكنا ويريحنا من هذا العذاب {قال إنكم ماكثون} ولا راحة ويقال لهم: {لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} [الزخرف: 78]. هذا معنى قوله: {لا يموت فيها ولا يحيى} لأنه قد يشكل على بعض الناس كيف يكون الإنسان لا حي ولا ميت؟ والإنسان إما حي وإما ميت؟
فيقال: لا يموت فيها ميتة يستريح بها، ولا يحيى حياة يسعد بها، فهو في عذاب وجحيم، وشدة يتمنى الموت ولكن لا يحصل له، هذا هو معنى قوله تعالى: {ثم لا يموت فيها ولا يحيى}.
المفضلات