ثقافة وفـنون
ذات مساء!
لا أرغب أن أحدّث أحدا..
أريد أن أستمتع وحدي بهذا المساء العيدي ذي السماء السماويّة.
أسترجع عمق العينين الباسمتين، والأنف الصغير المحاط بالنمش.. استمتع معها بمشهد تبدّل أشكال الغيوم السابحة إلى الشرق متجهة إلى السهل الخمري الذي نبتت فيه طفولتي..
ابتسم لخاطر طري: لماذا نتذكر طفولتنا بحضرة من..
أتلعثم قليلاً، وأكمل: بحضرة من نحب؟..
طوال حضورها لم أسمعها تتكلم جملة كاملة؛
لكن كلماتها المقتضبة رفرفرت حولي مثل فراشات ملونات..
أطارد فراشاتها الزاهيات..
وأنسى ما قلتُ..
دار الكلام بين الزوار والمساجين هشاً مثل العهن المنفوش.
كلانا قال جملاً عفوية..
تعليقاً أو توكيداً لحديث دار حولنا..
لقطت أذتي كلمات تناغي الطير في علاه!
كأنها قالت كل شيء!
كأني لم أقل شيئاً!
لم أنفش ريشي الملون مثلما تفعل الذكور بحضور الإناث.
لم تكن معنية بتوكيد حضورها المفطور على البهاء..
لكن صوتها انبجس داخلي ينبوع عسل!..
انحنت على الشبك، فتدلى عقيق سنساسلها ناعماً مثل تاء التأنيث؛
بلا تكلّف جعلتني أتجسس على أناقتي.
ياه ما أحلى التفكير بها!
لم يكن بيننا موعد للقاء.
لم تلتق عيوننا خلسة عن أمها وأبيها؛
ولا تبادلنا ابتسامة المجاملة البلهاء.
مجرد (مرحبا).
ووقفتْ بقدها الممشوق على رمشي!
بلا تبرج ولا مكياج باعدت صورتها بين رمشي ورمشي..
بلا استئذان استولتْ حركاتها وسكناتها على إيقاع نبضي!
تغادرنا
.. لا أغادرها!
شعرها الناري!
تضرّج خدها!
النمش البني حول أنفها الشامر عن بسمة دائمة الحضور.
التماعة عينيها!
بهاء قدها!
.. طيفها يشتت خطوي إلى حيث لا أدري.
موسيقى كلماتها المبعثرة.. تناغيني!
ها هي تسرقني من صخب المكان..
وصفير الشرطة.
وزحمة المساجين.
بين مدماكين؛ ألحظ زهرة أقحوان صغيرة بحجم عقيق قرطها..
زهرة أصغر من زر قميصها تلغي جهامة الجدار العالي.
تطل مطمئنة لهامشيتها. واثقة بهامشها.
زهرة أصغر من زر قميصها تلغي المكان..
وترسم قميصها المفتون بصدرها على الجدار!
بين المساجين المسرعين والمتمهلين؛
لا أرى إلا قامتها بارعة الحضور.
بلا إحساس أني نسيت شيئا.
أجوب الساحة سعيداً بظلّها الوارف يتمدد داخلي..
ولا أرى إلا حركة بنطالها وهي تغادر الشبك!
ياه.. كم مضى من الوقت أفكر بها؟
لا أدري.
ياه.. ما أحلى التفكير بها!
يا لجمال الغروب..
كأنه فجر جديد!
ياه.. ما أرقّ هلال العيد يرتسم كخط حاجبها في الأفق!
كأني اكتشفت جمال الكون هذا المساء!
كأني أرى السماء لأول مرة!
كأني أسبح مع الغيم!
كأني ..!
ثمة عصافير بدأت تزقزق وهي تأوي إلى أعشاشها في الجدار العالي..
وحده القط يجيد مداهمتي في هذه اللحظات الخاصة..
مشى إلى جانبي دون أن يقول شيئاً.
لما ارتفعت صافرات الشرطة كي «يضبوا المساجين» في مهاجعهم، اقتنص اللحظة، وسأل مبتسماً:
- عجبتك؟
دهشت لمداخلته!
تجاهلت سؤاله،
كأني لم أفهم..
*مقطع من مخطوطة «القط الذي علمني الطيران».
هاشم غرايبة
المفضلات