المدارس المالكية
1- مدرسة المدينة:
تعد مدرسة المدينة هي المدرسةَ الأم، والنبع الذي انبثقت منه كل روافد المذهب، وضُربت إليها أكباد الإبل في حياة الإمام، وحتى بعد وفاته؛ إذ لم تنقطع حلقات المذهب في المسجد النبوي، يتصدرها كبار تلاميذ مالك المدنيون: كابن الماجشون (ت212هــ)، ومطرف (ت214، وقيل: 219، وقيل: 220هــ)، وابن دينار (ت182هــ)، وغيرهم.
2- المدرسة العراقية:
ثم ظهرت المدرسة العراقية على يد بعض تلاميذ الإمام مالك كعبد الرحمن بن مهدي (ت198هــ)، وعبد الله القعنبي (ت221هــ)، وأحمد بن المعذَّل.
وقد تأثر منهج المدرسة العراقية بالمدرسة الفقهية السائدة في العراق ألا وهي: ((مدرسة أهل الرأي))، ونتيجة لهذا التأثر تميزت مدرسة العراق المالكية بميلها إلى التحليل المنطقي للصور الفقهية، والاستدلال الأصولي، وعلى رأس أولئك القاضي أبو الحسن ابن القصار (ت397هــ)، وابن الجلاب (ت378هــ)، والقاضي عبد الوهاب (ت422هــ).
3- المدرسة المصرية:
وكانت المدرسة المصرية - حينئذ - في أقوى أحوالها، مما جعلها تحتل مركز القيادة بين المدارس المالكية، وذلك بسبب سماعات ابن القاسم، وما قدمه في المدونة من آراء مالك، وآرائه هو الشخصية، والتي اعتمدت عليها المدارس المالكية كلها بعامة، ومدرسة إفريقية والأندلس بخاصة. ومن أبرز فقهائها: ابن القاسم (ت191هــ)، وأشهب (ت204هــ)، وابن وهب (ت197هــ)، وأصبغ (ت225هــ)، وابن عبد الحكم (ت214هــ) وغيرهم.
4- المدرسة المغربية (القيروان - تونس - فاس- الأندلس)
انتشر الفقه المالكي في بلاد المغرب الإسلامي بواسطة تلامذة الإمام مالك الذين رحلوا إليه منها، والذين يزيدون على ثلاثين تلميذًا.
وكان أبرز هؤلاء: علي بن زياد (ت183هــ)، والبهلول بن راشد (ت183هــ)، وعبد الرحيم (عبد الرحمن) بن أشرس، وعبد الله بن غانم (ت190هــ) ((..فكانوا حجر الأساس الراسي في هيكلة الفقه الإسلامي بالمغرب، ونواة الشجرة التي تولدت عنها جنة باسقة، لم يزل الدين والعلم والفكر والآداب تتفيأ ظلالها الوارفة إلى اليوم..)).
وكان من أعظم هؤلاء العلماء:
علي بن زياد. ولذلك قال سحنون: ((ولو أن التونسيين يسألون لأجابوا بأكثر من جوابات المصريين؛ يريد: علياًّ بن زياد وابن القاسم)).
كما تجلت عبقريته - أيضاً - في تلميذيه اللذين تخرجا على عينيه، وهما الإمامان: أسد ابن الفرات (ت213هــ) الذي كان له أكبر الأثر في تدوين فقه هذه المدرسة من خلال كتابه المعروف بالأسدية، نسبة إليه، والإمام سحنون (ت240هــ)، الذي استطاع هو الآخر أن يربط تلك الفروع بأصولها في مدونته.
إذن فمؤسس المذهب المالكي في تونس هو علي بن زياد.
وقد اهتمت هذه المدرسة بالموطأ وغير ذلك مما وقف عليه الإمام مالك، وبنى عليه مذهبه في المدينة، واهتمت هذه المدرسة بتصحيح الروايات وبيان وجوه الاحتمالات.
وامتدت مدرسة تونس لتصل إلى (فاس، والمغرب الأقصى) على يد درَّاس ابن إسماعيل (ت357هــ)، وهو أول من أدخل مدونة سحنون مدينة فاس.
((وهذا الفرع- فرع فاس والمغرب الأقصى- وإن تأخر ظهوره إلا أنه أضحى فيما بعد الممثل للمذهب المالكي في المغرب العربي بعامة، والأندلس بخاصة بعد استقرار المهاجرين من علمائه في أنحاء المغرب العربي)).
وأما مؤسس مدرسة المالكية في الأندلس:
فهو زياد بن عبد الرحمن الملقب بــ(شبطون) (ت204هــ). وقد سمع من مالك الموطأ، وروى عنه يحيى بن يحيى الموطأ قبل أن يرحل إلى مالك، وقد نقل عن الإمام مالك بعض الفتاوى، وله فيها كتاب سماع معروف بسماع زياد.
وزاد في تثبيت المذهب في الأندلس تلميذ زياد، يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي الذي حظي بالقرب من الخليفة عبد الرحمن بن الحكم بن هشام. جاء في ترتيب المدارك: ((ولم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس منذ دخلها الإسلام من الحظوة، وعظم القدر، وجلالة الذكر، ما أعطيه يحيى بن يحيى. وكان الأمير عبد الرحمن بن الحكم يبجله تبجيل الأب، ولا يرجع عن قوله، ويستشيره في جميع أمره، وفيمن يوليه ويعزله؛ فلذلك كثر القضاة في مدته)).
وبعد أن تحمل يحيى موطأ مالك وأصبحت روايته من أشهر روايات الموطأ - وهي مما انفرد بروايتها المغاربة-. توجه إلى مصر بعد وفاة مالك، حيث التقى بابن القاسم، وابن وهب، شيخي المدرسة المصرية والمدنية، وتلقى منهما الشيء الكثير، وجمع بين آرائهما دون تعصب لأحد منهما، حتى كان يقول: ((اتباع ابن القاسم في رأيه رشد، واتباع ابن وهب في أثره هدى)).
ثم حمل لواء المذهب في الأندلس بعده محمد العتبي (ت254هــ)، حيث سمع من سحنون، ويحيى بن يحيى، ثم دون مستخرجته التي جمع فيها أقوال مالك وأصحابه، فاعتنى بها أهل الأندلس، وعكفوا عليها، واعتمدوها، وهجروا ما سواها، وبوَّبوها تبويب المدونة. ثم أفضى الأمر بعده إلى تلميذه ابن لبابة (ت314هــ)، الذي أخذ عن العتبي وغيره، وقد دارت عليه الأحكام، وتدريس الرأي أكثر من ستين سنة. ولم تزل هذه المدرسة يذيع صيتها، ويطير ذكرها في الأندلس، بالفضل بن سلمة (ت319هــ)، وأبي بكر بن زرب (ت381هــ)، ومن بعدهما أبو عمر ابن المكوي (ت401هــ)، وابن الفخار (ت419هــ)، إلى أن ابتلى الله قرطبة بفتنة البربر، تلك الفتنة التي مات بسببها الكثير من العلماء، وفر بسببها كثير آخرون استوطن أغلبهم فاساً، وبذلك ضعفت المدرسة في الأندلس، حتى قيض الله الإمام أبا الوليد الباجي (ت474هــ) وأبا محمد الأصيلي (ت392هــ)، فأحيا بهما ما اندرس من العلوم الفقهية.
ثم خلفهما سند بن عنان (ت541هــ) تلميذ الباجي وصاحب الكتاب المشهور بالطراز، ثم خلفتهم في هذه المدرسة كوكبة من العلماء اتجهت إلى جمع المذهب فروعاً وقواعد، ومن أشهرهم: الإمام ابن الحاجب (ت646هــ)، والإمام القرافي (ت684هــ)، والإمام خليل بن إسحاق (ت767هــ) صاحب المختصر الفقهي، واتجه هؤلاء إلى الاعتماد على آراء معينة في الفقه واعتمادها هي المذهب، مما حدا بالبعض الآخر كابن عرفة (ت803هــ) إلى عدِّ ذلك قتلاً للفقه، فجمع الآراء المهجورة والمتروكة منذ القرن السادس، وحث على الأخذ منها، والترجيح بينها عن طريق النقد والتحقيق.
وقد زاد من هذا النهج الإمام الشاطبي أبو إسحاق (ت790هــ)، ورأى انكباب الناس على المختصرات دون غيرها مما يضعف الإفادة في المسائل النازلة، وشمر عن ساعديه في الرجوع إلى حقيقة الدين وقواعده الكلية القطعية، فكانت حصيلة هذا المنهج كتاب الموافقات ذلك السفر العظيم، ولا يبعد هذا النهج كثيراً عن نهج أولئك الأجلاء أمثال: ابن عبد البر (ت463هــ)، وابن العربي (ت543هــ)، وابن رشد الحفيد (ت595هــ) مع اختلاف الأزمان
المفضلات