الحمد لله الواحد العلي ، الواجد الغني ، الطاهر عن كل عيب ، الظاهر له كل غيب
والصلاة والسلام الأتمان على نبيه المنقذ من الضلالة ، المبعوث بالرسالة
وعلى آله وأَصحابه الأخيار المنتخبين ، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين ، وعلى النبيين وآلهم أجمعين ، وعلى كل عبد صالح إلى يوم الدين ، آمين . . أما بعد :
فإن مما ينبغي للإنسان أن يتحلى بالسكينة والوقار ، سكينة في حركاته وصوته وفي تصرفاته كلها
حتى في حال الدعاء ، وهو من أعظم العبادات ، قال تعالى :
{ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً }
وقال مادحاً نبيه وعبده زكريا :
{ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا }
" لأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقوَّة والجلادةِ ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار ، وعمدة الدُّعاء الانكسار ، والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها ، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه "
" قال ابن جريج : يُكره رفعُ الصوتِ والنداءُ والصياحُ بالدعاء ، ويُؤمر بالتضرُّع والاستكانة ".
" وروى عن قيس بن عبادة أنه قال : كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يكرهون رفع الصوت عند الذكر ".
حتى في مقام الصلاة ، وهي من أفضل العبادات ، وفيها ينطق بأجمل الكلام ، إلا أنه أمر بخفض الصوت فيها :
{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }
فرفع الصوت والصخب ليس من أخلاق المؤمنين سواء في العبادات أو غيرها إلا لمصلحة شرعية .
وقد قال الله تعالى :
{ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ }
" قال ابن زيد : " لو كان رفع الصوت هو خيراً ما جعله للحمير "
" وقال سفيان الثوري : صياح كل شيء تسبيح لله - عز وجل - إِلا الحمار ، فانه ينهق بلا فائدة "
وقال القرطبي : " في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة ، بقبح أصوات الحمير ، لأنها عالية "
وقال السعدي : " فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة ، لما اختص بذلك الحمار ، الذي قد علمت خسته وبلادته ".
و" قوله تعالى :
{ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } أي انقص منه ، أي لا تتكلف رفع الصوت ، وخذ منه ما تحتاج إليه ، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي .
والمراد بذلك كله التواضع ، وقد قال عمر لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته :
لقد خشيت أن ينشق مريطاؤك
والمؤذن هو أبو محذورة سمرة بن معير . والمريطاء : ما بين السرة إلى العانة " .
وعلى كل فالإسلام كره رفع الصوت حتى في العبادات إلا ما كان في التلبية والأذان والإقامة .
وعن عبد الله الجدلي قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت :
" لم يكن فاحشاً ، ولا متفحشاً ، ولا صخاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح " .
قال المبارك فوري : قوله : ( ولا صخاباً ) أي : صياحًا ".
" قال العلماء : إن النهي لا يتناول رفع الصوت الذي ليس باختيار المكلف . . . ولا الذي نيط به صلاح في حرب أو جدال معاند أو إرهاب عدوّ .
ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين : " أصرخ بالناس " وكان العباس أجهر الناس صوتاً .
وفيه قال نابغة بني جعدة:
زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم
وأبو عروة كنية العباس .
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيشق مرارة السبع في جوفه ".
" وحينما لا تكون هناك حاجة إلى رفع الصوت ، فذلك يكون أوقر للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع "
فكيف إذا رفع الصوت بالقول القبيح أو عند الخصومة أوفي المساجد أو عند المصيبة كان أشد قبحاً ، و رفع الصوت من المرأة أقبح قال في مواهب الجليل :
" رفع الصوت في حق النساء مكروه مع الاستغناء عنه لما فيه من الفتنة وترك الحياء ، وإنما تسمع المرأة نفسها
ونصح ابن جماعة المتكلم بقوله : " ولا يسرد الكلام سرداً ، بل يرتله ، ويرتبه ، ويتمهل فيه ؛ ليفكر فيه هو وسامعه ، وقال : ألا يرفع صوته زائداً على قدر الحاجة ، ولا يخفضه خفضاً لا يحصل معه كمال الفائدة
وقال : والأولى ألا يجاوز صوته مجلسه ، ولا يقصر عن سماع الحاضرين ؛ فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمعه ، إذ رفع الصوت أكثر مما يحتاج إليه السامع ، ففي ذلك رعونة وإيذاء .
إذ لم يكن عليه الصلاة والسلام فحّاشاً ولا صخّاباً ولا سبّاباً صخاباً في الأسواق ".
ولا يتنافى ما قلناه مع ما ورد من أن عمر كان إذا قال أسمع ، لأن ذلك يحمل عند الحاجة لرفع الصوت .
والتوسط في رفع الصوت وخفضه مطلوب ، قال البقاعي : " ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها تماوتاً أو دلالاً وتكبراً ، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا . . فأفهم أن الطرفين مذمومان
فعلى الإنسان ألا يبالغ في الجهر إلا لغرض صحيح ، ومنه الأذان والإنذار من العدو ، لأن رفع الصوت في مواطن القتال يفت في أعضاد العدو .
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يكون الرجل خافض الصوت ، ويكره أن يكون جهير الصوت ، والمبالغة في الجهر تشوه الوجه ، وتذهب بهاؤه ، وتركه أوفر للمتكلم ، وابسط لنفس السامع وفهمه .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس يفطرون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخلطون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون صخاباً ، ولا صياحاً ، ولا حديداً ".
نسأل الله أن يرزقنا السكينة والوقار والتواضع .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
منقووووووووووووول
المفضلات