لماذا كانت الرحلة إلى بيت المقدس ولم تبدأ من المسجد الحرام إلى سدرة المنتهى مباشرةً؟!
إن هذا يرجع بنا إلى تاريخ قديم، فقد ظلت النبوات دهورًا طوالاً وهي وقْفٌ على بني إسرائيل، ظل بيت المقدس مهبط الوحي، ومشرق أنواره على الأرض، وقصبة الوطن المحبب إلى شعب الله المختار.
فلما أهدر اليهود كرامة الوحي وأسقطوا أحكام السماء حلت بهم لعنة الله، وتقرر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد، ومن ثم كان مجيء الرسالة إلى محمد- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- انتقالاً بالقيادة الروحية في العالم- من أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن ذرية إسرائيل- إلى ذرية إسماعيل.
وقد كان غضب اليهود مشتملاً لهذا التحول؛ مما دعاهم إلى المسارعة بإنكاره ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ (البقرة: 90)، لكنَّ إرادةَ الله مَضَت، وحملت الأمةُ الجديدةُ رسالتَها، وورِثَ النبي العربي تعاليم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقام يكافح لنشرها وجمع الناس عليها، فكان لا بد مِن وَصْل الحاضر بالماضي، وإدماج الكل في حقيقة واحدة.. أن يعتبر المسجد الأقصى ثالث الحرمين في الإسلام، وأن ينتقل إليه الرسول في إسرائه فيكون هذا الانتقال احترامًا للإيمان تدرج قديمًا في رحابه.
ربط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام وما فيه من حكم وفوائد
إن المتأمل للآية الأولى من سورة الإسراء يجد أنها ربطت المسجد الأقصى بالمسجد الحرام، وربطت بيت المقدس بمكة المكرمة؛ إذ أُسرِي به- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، وكان من الممكن أن يعرج الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- إلى السماوات العُلا من المسجد الحرام مباشرةً دون أن يُسرَى به على المسجد الأقصى ويعرج منه.. نلاحظ أن هذا الربط كان مقصودًا، ونحسب- والله أعلم- أن وراء ذلك دلالاتٍ وفوائدَ.. فما هذه الدلالات والفوائد؟!
إن المتأمل لآيات القرآن الكريم وأحداث التاريخ والظروف التي تنزَّلت الآيات فيها يجد أن لهذا الربط أكثر من دلالة.. إن الربط بين المسجدين يُشعر بأهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، وفي مقدمتهم صحابة رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فهم يصلون في مكة ويتَّجهون في صلاتهم إلى المسجد الأقصى، فهو قبلتهم الأولى، وهو ثالث ثلاثة مساجد تُشد إليها الرحال في الإسلام من أجل الصلاة فيه؛ إذ الصلاة فيه بخمسمائة صلاة فيما سواه غير المسجد المكي والحرم المدني، وهو رابع أربعةِ مساجد يمنع من دخولها الدجال، فقد أخرج الإمام أحمد- رحمه الله- في مسنده أن الدجال يطوف الأرض إلا أربعة مساجد: مسجد المدينة ومسجد مكة والأقصى والطور.
وإذا كانت للمسجد الأقصى هذه المناقب والفضائل، فعلى قلوب المؤمنين أن تتعلَّق به، وأن تحبه كحبها للمسجد الحرام، وأن تشتاق أن تصليَ فيه كما تشتاق أن تصلي في المسجد الحرام.. نعم على المؤمنين والمؤمنات والصادقين والصادقات والمخبتين والمخبتات والقانتين والقانتات أن تهفوَ أفئدتهم للمسجدَين، وأن يتغلغل حبُّهما إلى شغاف القلوب وسويدائها، وكأن هذه الآيات تقول للمسلمين إذا تعلقت أرواحكم وقلوبكم بالمسجد الحرام، الذي بناه أبوكم إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- الذي سماكم المسلمين من قبل فينبغي أن تتعلق هذه القلوب والأرواح بالمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وهو كذلك مهاجر إبراهيم عليه السلام؛ حيث هاجر إليه من العراق، واستقرَّ بعد ذلك في فلسطين، وهو المكان الذي سيكون مهاجرًا للمسلمين فيما بعد، حين تدلهمُّ الخطوب، وتحلولك الليالي.
عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: "ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم (وهو القدس الشريف)، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير" (رواه أبو داود بسند صالح).. إننا لو درسنا الظروف التي تنزلت فيها آياتُ الإسراء والمعراج على قلب رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فماذا نجد؟!
نحن نعلم أن هذه الآيات مكية، نزلت قبل الهجرة النبوية، والجماعة الإسلامية في مكة مستضعَفة لا تملك شيئًا من السلطة أو القوة تدافع به عن نفسها أو تحمي المستضعفين بها، كان رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وأصحابه لا يملكون أن يصلوا ركعةً واحدةً في ظل الكعبة جماعاتٍ أو فرادى دون اعتداء المعتدين وتنكيل المنكلين، في هذا الوقت بالذات كانت معجزة الإسراء والمعراج، وتنزَّلت آيات الإسراء والمعراج تحدثهم عن المسجد الأقصى وتاريخ المسجد الأقصى ليدركوا الخطر الذي يحيط بالمسجد الأقصى.
إن الصحابة يعلمون ما حلَّ بالمسجد الحرام من شرك وفساد؛ حيث تنتشر فيه الأصنام ويدنسه المشركون، يطوفون بالبيت عراةً رجالاً ونساءً إذا لم يجدوا ثوبًا جديدًا أو ثوب قرشي لا يعصي الله بزعمهم، حتى يطوف فيه وهو أسير يقع في قبضة المشركين، وينبغي أن يدركوا أيضًا أن حال المسجد الأقصى لا تقل سوءًا عن حال المسجد الحرام، فهو يرزح تحت حكم الرومان المنحرفين في عقيدتهم وسلوكهم؛ إذ تشيع فيه الأفكار الشركية والتصرفات الشركية، وإذا كان الأمر كذلك فالمسجدان في مكة وبيت المقدس بحاجة إلى التحرير من أوضار الشرك.
فالربط إذن يتطلب من المسلمين أن يدركوا مسئوليتهم تجاه المسجد الأقصى، وما المطلوب منهم أن يفعلوه بالنسبة له، عليهم أن يعلموا أن الله فرض عليهم أن يفدوا المسجد الأقصى بدمائهم وأموالهم، كما هو مفروض عليه ومطلوب منهم أن يحموا المسجد الحرام ببذل المُهَج والأرواح ويفدوه بالغالي والرخيص.
والربط بين المسجدَين يُشعر أيضًا بأن التفريط بالمسجد الأقصى جريمةٌ تعادل التفريط بالمسجد الأقصى، هو جريمةٌ تعادل التفريط بالمسجد الحرام، وأن التفريط بفلسطين وما حولها حرامٌ وجريمةٌ لا تقل عن جريمة التفريط بمكة البلد الحرام.
والربط يُشعر أيضًا بأن التهديد للمسجد الأقصى هو تهديد للمسجد الحرام وأهله، وأن النَّيْل من المسجد الأقصى توطئةٌ للنيل من المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى هو بوابة الطريق إلى المسجد الحرام، وزوال المسجد الأقصى من أيدي المسلمين ووقوعه في أيدي أعدائهم يعني أن المسجد الحرام والحِجَاز قد تهدد الأمن فيهما، وطمع الأعداء فيهما، وهذا ما خطط له اليهود بمكرٍ ودهاءٍ، ولم يظهر على ألسنة زعمائهم وسياسييهم بصراحة ووضوح إلا بعد أن احتلوا المسجد الأقصى وبقية أراضي فلسطين.
بعد حرب 1967م التي احتل اليهود فيها القدس وبقية فلسطين يقف ديفيد بن جوريون- زعيم اليهود- يستعرض جنودًا وشبانًا من اليهود بالقرب من المسجد الأقصى، ويلقي فيهم خطابًا ناريًّا يختتمه بقوله: لقد استولينا على القدس، ونحن في طريقنا إلى يثرب، وتقف غولدا مائير- رئيسة وزراء اليهود- بعد احتلال بيت المقدس، وعلى خليج إيلات العقبة تقول: إنني أشم رائحة أجدادي في المدينة والحجاز، وهي بلادنا التي سوف نسترجعها.
هذا والذي يتابع الأحداث وتحركات العدو اليهودي في فلسطين وخارج فلسطين بعد حرب 1967م يجد أن اليهود قد ازداد نشاطهم الإعلامي والسياسي بعد نجاحهم العسكري في الحرب، وأخذوا يصرِّحون بشكل سافر عن أطماعهم في المنطقة، وينشرون في الدول الأوروبية وغيرها خريطةً لدولتهم اليهودية التي يعملون لها ويخططون من أجلها، وهذه الخريطة تشمل الجزيرة العربية من الفرات إلى النيل، بما فيها المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ومكة المكرمة وسائر بلاد الحجاز واليمن والكويت وقطر والإمارات العربية في الخليج العربي كله.
وكأن الربط يستثير همم الصحابة ويحفزهم- رضوان الله عليهم أجمعين- على وجوب تحرير المسجد الأقصى وفلسطين وتطهيره من أوضار الشرك ورجس التثليث، وقد أصبح مصلًّى لرسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ومسراه ومعراجه.. أضِف إلى ذلك أنه قبلتُهم فينبغي أن يحررها، هذا ولم يمض سوى وقت قصير حتى حرروا المسجد من رجس المشركين وطهروه للركَّع السجود.
وهناك حكمة أخرى يذكرها ابن حجر العسقلاني في كتابه (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) عن الشيخ أبي مجد بن أبي حمزة: "الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحق لمعاندة من يريد إخماده؛ لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان وإلى الإيضاح، فلما ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات من بيت المقدس كانوا رأَوْها، علموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صح خبرُه في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره، فكان ذلك زيادةً في إيمان المؤمن، وزيادةً في شقاء الجاحد".
اختكم في الله ابنة فلسطين المحتلة :rere
المفضلات