وقفة مع آية \ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
قال تعالى ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))الأنفال\30
عن ابن عباس أن نفراً من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا له من أنت ؟ قال شيخ من أهل نجد، سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا: أجل، ادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم. قال: فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ فانظروا في غير هذا. قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه. وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله، فانظروا رأياً غير هذا. قال: فقال أبو جهل لعنه الله، والله لأشيرن عليكم برأي ما أركم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره. قالوا: وما هو ؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً شاباً وسيطاً نهداً، ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك، قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى، لا أرى غيره. قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك بالخروج وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده ((وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)) وقد ذكر ابن هشام في سيرته نقلاً عن ابن أسحاق من طريق ابن عباس نحو هذا
من هذه الآية الكريمة وأسباب نزولها نستنتج الأمور التاليه :
1ـ إن الشدائد مفاتيح الفرج وإن مع العسر يسرا فإن كفار مكة آذوا الرسول صلى الله عليه وسلم وآذوا أصحابه واشتد الآذى إلى أن وصل منتهاه وهو قتل الرسول صلى الله عليه وسلم فكان قرار القتل هذا إيذاناً بهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيام الدولة في المدينة فعلا سلطان الأسلام وعز المسلمون
2ـ إن الآخذ بالأسباب أمر بالغ الأهمية في الأسلام فإن الله سبحانه قد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يبيت في فراشه واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه من الأسباب أثناء هجرته ما فيه دلالة واضحة على ربط الأسباب بالمسببات , كل ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يدرك أنهم لن يصلوا اليه بسوء فقد أجاب ابا بكر عندما قال له يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدماه لرأنا عندما كان الكفار يقفون بباب الغار الذي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم (( ما ظنك باثنين الله ثالثهما )) وكما في الآية الكريمة ((لا تحزن إن الله معنا )) التوبة\40 مما يدل على ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان موقناً بالنجاة من الكفار كما آوحى الله سبحانه وتعالى إليه , ومع ذلك أخذ من الأسباب كل ما يلزم من عدم المبيت تلك الليلة وجعل علي رضي الله عنه مكانه يتسجى ببرد الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الذهاب جنوباً إلى غار ثور بدل أن يذهب مباشرة إلى المدينة وهي شمال مكة والأختفاء في الغار ثلاثاً ثم استطلاع الأخبار وهو في الغار ليعرف خبر القوم وبعد ذلك يجعل مولى ابو بكر عامر بن فهيرة يريح الغنم على آثار عبدالله بن ابي بكر الذي كان يأتيه بالأخبار لكي تزول الأثار .
لذلك فإن الآخذ بالأسباب من الأمور المهمة التي لا يصح أن تترك جانباً ظناً من المسلم أنه بهذا يحسن صنعاً بل عليه الأخذ بها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخذ بها ((وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ)) الحشر\7
3ـ إن الله يتولى الصالحين , والمؤمن في رعاية الله في السراء والضراء ((إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ))الحج\38 فقد اجتمع رؤوس الكفر في مكة يتشاورون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكروا مكراً شديداً فقرروا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الله أبطل مكرهم ورد كيدهم في نحرهم ودبر لهم ما لم يستطيعوا الفكاك منه , فنجّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له بالهجرة وأوصله سالماً . فالله سبحانه وتعالى ناصر عباده المؤمنين ((إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ))غافر51
والله سبحانه وتعالى أعلم وهو الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب
المفضلات