الطب ليس مشارط وجراحة أو سماعة وحقنة ديجتال. بل هو عمل وأخلاق ومؤسسة وحماية قانونية. وعندما نسوق السيارات دون إشارات مرور وقواعد سلامة فأمامنا الكوارث. وفي الطب يجب أن يحمى المريض والطبيب. وليس من أحد إلا سيكون مريضا يوما ما بمن فيهم الأطباء. وليس هناك حصانة أو مناعة ضد المرض ولو لأفضل الناس. وعندما يعمل الطبيب في جو لا تتوفر فيه الحماية يكون مثل الجيش الذي يخوض معركة دون غطاء جوي. وكل عملية جراحية هي معركة من وجه يتذكر فيها الإنسان قول الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاثبتوا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. وكذلك العملية الجراحية لا يتمناها إلا جراح أهوج أو غير ناضج أو من يريد أن يتمرن في غير وقت التمرين. لأنها دماء وآلام يدفعها المريض من أعصابه وماله وحياته أحياناً. والثبات هنا تحت ظلال المشارط في قاعات العمليات بين دم وقيح حتى مطلع الفجر. وعمر الجراحين قصير لأنهم يعيشون على فرط إفراز الأدرنالين ويقال إن الجراح الذي يعمر فوق الخمسين هو بطل غير معلن. هذا إن مارس الجراحة بحق. وكثير من الجراحين يستقيلون على نحو مبكر ليجنبوا أنفسهم جلطة قلبية؟ والمريض يحتاج إلى علاج حينما يراجع المشفى ولكن في جو عمل الرعب والشكاوى يصبح المريض قنبلة موقوتة. ويصبح الجراح بين دافعين، الخوف منه والخوف عليه. بين أن يعالجه أو (يزحلقه)، ولذا كثرت ظاهرة زحلقة الحالات لأن أي اختلاط لا يرحب به الناس هو أمر غير متعارف عليه في بيئتنا. والطب يضع مقدارا من المضاعفات في كل فن ولو تجرع الدواء. وهناك من مات قبل أن يلمسه مبضع الجراح. وهي أمور رأيناها ولا ندافع عنها فالطب لا يعرف كبيرا. ويمكن لأصغر عملية أن تنتهي بأفظع مضاعفة. وعلى الناس أن يستوعبوا هذه الحقيقة وعلى الجراح أن يتعلم التواضع ولا يسمي أي عملية صغيرة حتى يخرج منها. والجراح الجيد ليس الذي يجري جراحة جيدة بل يكتشف الاختلاط ساعة وقوعه فيتدخل فيعيد تصليح الأمور وعودة المياه إلى مجاريها الطبيعية وتدفق الدم في شرايينه المعروفة. وأكثر من يحرك الشكاوى ليس المرضى بل زملاء المهنة حسدا من عند أنفسهم أو شماتة أو كيدا أو تآمرا أو حقدا أو ولعا بتدمير سمعة زميلهم. وفي يوم اجتمع فريق كبير من جراحين شتى لإنقاذ حياة مريضة وبعد معركة أخذت أكثر من عشر ساعات تكللت العملية بالنجاح ولكن في هذه الزوبعة نسي أحد الجراحين فوطة في البطن وهو أمر يحدث لأن الفوطة أو الشاش يمتص الدم ولونه فيصبح كأنه من الجسم ويجب على الممرضة أن تعيد الشاش المستخدم. وفي حال غياب شيء من الشاش يصور البطن بالأشعة السينية. ولذا عُلِّمَ شاش البطن بعلامات تعطي ظلاً بالتصوير. وبكل أسف فقد حصل ما حصل في عملية الزميل الذي أنقذ المريضة من موت محقق. فجاء زميل له فسعى إلى مدير المستشفى بالفتنة والوشاية فقال إن الملأ من الأطباء قد أخطئوا وإنه البطل المغوار الذي لا يشق له غبار! واستخرج فوطة الزملاء المنسية وعمل بها (دربكة) لبنانية أمام المدير فمشى على جثثهم وسمعتهم ليبني له سمعة من الرياء. وروى لي زميلي أن واقعة مماثلة حصلت في أمريكا فأخرج الجراح الفوطة ووضعها تحت رجله ولم يكلم أحدا سوى الزميل فقال له إنها غلطة قد تكلفك الكثير فانتبه لعملك. فهذا هو الفرق في أخلاقيات المهنة وليس هناك من أحد فوق النقد ودون الخطأ. وكما يقول أرسطو أن نغضب بالمقدار اللازم في الوقت اللازم في المكان الملائم للقضية اللازمة. ويجب أن يبنى نظام قانوني من حماية المريض والطبيب.
تحياتي
المفضلات