إنّهُ المُتَوَسّط .. بَحرُنا أو بحرُهم .. أم بحرُ ظُلمات البَشَريّةِ؟!
لَعنَةٌ لِضفافِ المُتَوَسّط حَكَمتْ العيشَ على ضفافه مِنَذ أقدم العصور؛ جيوشٌ ومحاربونَ، أساطيلٌ وأديانٌ وثقافاتٌ وتجارةٌ، كلّها عبرَتْهُ، مِنَ الشرق إلى الغرب، ومِنَ الشمال إلى الجنوب، وبالعكس. أمّا هُوَ؛ بحرُ الشامِ أو بحرُ الرومِ، فَظَلَّ كما هُوَ؛ بُحيرةً راكدةً، يُقفلُها الغُزاةُ، عندَ مضيقِ جبل طارق أو البسفور، على شعوبِ ضفافِها، إذا ما استطاعوا إلى القوّة سبيلاً. أمّا السّاكنونَ إلى جواره، وحينَ يمتلكونَ القوّة، فَما هي إلا ‹›هِمَّةُ ..›› حصانٍ جامحٍ، تحملُ أصحابَها إلى ضِفّةٍ أخرى، بِقَفزةِ حافرِ فَرسٍ عندَ المضيقين؛ طارق أو البسفور..؟!.
هُوَ البحرُ المُتَوَسّط، أو البحرُ الأبيض المُتَوَسّط، أو البحرُ الشاميُّ، أو البحرُ الروميُّ، وَهُوَ أكبرُ بِحارِ العالمِ. فالرومانُ أسْموهُ؛ ‹›بحرُ الرومِ، أو بحرُنا››. والشعوب الأوروبية الأخرى أسمتهُ بـ ‹›المُتَوَسّط››، لوقوعه بين قارّات ثلاث. وفي الكتاب المقدّس، وَرَدَ ذِكرُه بإسم ‹›البحر الكبير››. وفي اللغةِ العبريّةِ الحديثةِ، يُسمّونَهُ ‹›البحرُ المُتَوَسّط››. والأتراكُ يُسمّونَهُ ‹›البحرُ الأبيضِ›› لِكَثرةِ الزبدِ في أمواجهِ، أمّا العربُ القدماءُ، فَسمّوهُ ‹›البحرُ الشاميّ›› وَ››بحرُ الرومِ››، وكذلك سمّو الحوضَ الغربيّ مِنَه بـ ‹›بحرُ المغربِ». أمّا التسميةُ المعاصرة لِلبحرِ عند العرب؛ ‹›البحر الأبيض المُتَوَسّط››، فَهيَ مزيجُ بين التسميةِ التركيّةِ والأوروبيّة له.
والمُتَوَسّطُ تُحيطُ بِهِ قاراتٌ ثلاث؛ آسيا مِنَ الشرق، إفريقيا مِنَ الجنوب، وأوروبّا مِنَ الشمال، ويتّصلُ بالمحيطِ الاطلسيّ عن طريقِ مضيقِ جبلِ طارق، وبالبحرِ الأسودِ عن طريقِ مضيقِ البسفور، وبِبحرِ مَرمرة عن طريقِ مضيقِ الدردنيل، وبالبحرِ الأحمرِ عن طريقِ قناةِ السويس. والبعضُ يعتبرُ بحرَ مرمرةَ امتداداً لِلبحرِ المُتَوَسّط. والمُتَوَسّطُ واحدٌ مِنَ أهمّ الممّراتِ التجاريّةِ في العالم القديم، وجسرٌ لِتبادُلِ الثقافات والمعارف بين حضارات العالم المختلفة، وخصوصاً شعوبُ المِنَاطقِ المحيطة به: فينيقيون، مصريّون، إغريقٌ، شعوبُ شرق المُتَوَسّط، رومانٌ، شعوبُ المغرب في شمالي إفريقيا، شعوب بلادِ ما بين النهرين، قرطاجيّونَ، وغيرهم.
فَقديماً، قامت حولَهُ دُوَلٌ ومدنٌ وحضاراتٌ عديدة. واليوم، تقوم حولهُ دُولٌ وحضاراتٌ ومدنٌ أكثر ممّا سَبق، وتزدادُ الصراعاتُ العالميّةُ والإقليميّةُ حولَهُ وعليه. ومِنَ الصعب فَهْمُ تاريخِ العالم القديم مِنَ دون معرفة تاريخ البحر الأبيض المُتَوَسّط. وذلك التاريخ هُوَ الأساسُ لِفَهم هُوَياتِ وحضاراتِ وطبائعِ المجتمعاتِ المعاصرةِ، فَمعظمُ الحروبِ القديمةِ والمعاصرةِ دارتْ حولَهُ.
وَلِأنَّ المُتَوَسّطَ كلُّ هذا وغيره، سنحاولُ هنا في (مَرافىءِ المُتَوَسّط ..) تَتَبُّعَ رحلةَ تنقّلِ الزمانِ والإنسانِ في مرافئهِ، إذا ما استطعنا إلى «هِمّةِ ..» تلك المرافىءِ سبيلا ..
المفضلات