أ
َدوات الاستفهام , أَدوات للتفكيرِ
نحن نستخدم (السؤال) كأداةٍ للاستفهام والاستعلام، أي لطلب الفهم والعلم، وإنْ شئتَ أن نستعمل تعابير الفلاسفة، فسوف نقول إن (السؤال) أَداةٌ لاستدعاء المعرفة . غير أن وظيفة الأسئلة لا تقتصر على ذلك، فقد نلجأ إلى (السؤال) أحياناً للتعبير عن الاستنكار، أو التعجّب، أو الشَّكِ، أو نلجأ إليه للتعريف بفكرة، أو لنقضها، أو للاختبار، أو لسوى ذلك من الأغراض .
والسؤال عادة بدايةُ ومنطلقُ البحث والتفكير والتأمّل، وقد يكون تحريضاً للآخر على البدء بالتفكّرِ وإعادة النظر، وهذا ما عبّر عنه أحد الأدباء بإيجاز وبلاغة حين قال : (في البدء كان السؤال..) . كما قد يعبّر (السؤال) عن عدم الاطمئنان إلى فكرة متجذّرة، أو إلى واقع معين راسخ . وربما هذا ما يجعل السؤال (مجرد السؤال) أحياناً مُحرّماً، أو محظوراً، أو مُجرّماً .. في نظر بعض المجتمعات أو الأفراد . وربما هذا أيضاً ما جعل الفيلسوف والروائي النرويجي (جوستاين غاردر) يقول : الذين يطرحون الأسئلة هم دائماً الأكثر خطراً ويقول كذلك : إن سؤالاً واحداً، يمكن أن يفجّر ما لا يفجره مائة جواب .
ولعل (الدّهشة) من أهم البواعث التي تحرّكُ في النفس والذهن السؤال، ولهذا السبب، فإن الأطفال أكثر الناس طرحاً للأسئلة، ويعتبر علماء النفس كثرة أسئلة الطفل ونوعيتها من مؤشرات الموهبة لديه . وكذلك الحال، فإن كثرة الأسئلة التي تدور في عقول الفلاسفة، تجلو سبب طول تأملاتهم، وغزارة إنتاجهم الفكري، فهم لم يفقدوا حين كبروا تلك الدهشة التي ترافق الطفولة بوجه عام، وتصاحب الطفولة الموهوبة على نحو خاص .
وعند النظر إلى أدوات السؤال (الاستفهام) نجد أن كلاً منها يختصُّ بمكوِّن أساسي من مكوِّنات الوجود، فالسؤال (ما هو؟) يُستفسر به عن ماهية الشيء وجوهره، وأداة (لماذا) للسؤال عن العلة، و(أين) عن المكان أو الموضع، و(متى) عن الزمان، و(كيف) عن الهيئة أو الطريقة ... وهكذا، وبالتالي فإنه يمكن الاستناد إلى الأسئلة (باستخدام أدواتها) كمدخل يسهّل التفكير ويحدِّدهُ ويوضحه بشكل كبير، ولنضرب مثلاً على ذلك، فإنه لو أراد شخص أن يخطط للمستقبل، فيما يتعلق بحياته الخاصة أو بأسرته أو بمؤسسته، تخطيطاً منهجياً شاملاً، فيُمكنه أن يَلِجَ من خلال هذا المدخل، فيسأل : أين أنا الآن ؟ إلى أين أريد أن أَصِلَ؟ متى سأَصِل ؟ كيف سأصِلُ؟ أو ما الذي أحتاجه لأَصِلَ ... إلخ، ولا شك أن (الشطارة) تكون في اختيار الأسئلة التي ستشكل إجاباتها خطة مرسومة، وعلى ذلك يمكن أن نقيس إمكانية طرح الأسئلة كمدخل لتحديد وتوضيح الكثير من الأمور الحياتية الأخرى .
وإذا كانت الأسئلة في العادة هي التي تسبقُ، والإجابات تأتي لاحقةً لها، فإن النّظر إلى الموضوع بطريقة مقلوبة، يساعد على توضيح كثير من الأفكار عند بَسطِها وشرحها، ومحاولة توصيل مضمونها وجوهرها للآخر، وذلك بأن نُحدِّدَ السؤال الذي تجيبُ عنه الفكرة ما أمكن . وخذ مثلاً مبسطاً على ذلك من مجال العلوم الإدارية، حيث يجد الكثيرون صعوبة في التفريق مثلاً بين (الرؤية) التي تتبناها المؤسسة و(الرسالة) التي تأخذ بها، فتلمَسُ حين تقرأ رؤية أو رسالة العديد من المؤسسات، أن ثمة عدم وضوح لمفهوم كل واحد من هذين المصطلحين في ذهن مَنْ صاغهما، أو تجدُ خلطاً بينهما، ومهما طال الشرح حولهما، قد يظل الغموض أو الخلط بالنسبة للبعض قائماً، لكن المفهوم يغدو أكثر يُسراً ووضوحاً وتميُّزاً، حين تقول إن الرسالة تجيب عن سؤال (لماذا؟) أي لماذا وُجِدتْ المؤسسة، بينما (الرؤية) تجيب على سؤال (ماذا) أي ماذا تريد المؤسسة أن تحقق .. وهكذا .
لقد طُلِبَ من إبني في المدرسة أن يكتب موضوعاً في الإنشاء حول (السعادة)، ويبدو أن الفتى رَغبَ في أن يكون موضوعه مُركّزاً وشاملاً ومتميزاً، فطالت حيرتهُ حول ما سيكتب، ولما لم يسعفه المدخل التقليدي في كتابة (موضوع التعبير) من خلال : المقدمة، وصلب الموضوع، والخاتمة ... ! فقد اقترحتُ عليه أن يضعَ علامات الاستفهام أمامه، ثم يفكر من خلالها بمدخل، وهكذا فعل، فخرجَ بالأسئلة التالية : ما هي السعادة ؟ من هم السعداء ؟ متى نكون سعداء ؟ كيف تتحقق السعادة ؟ وإذا بالأسئلة تدفعه إلى التفكّر والبحث، وإذا به يحدّد العناصر والأفكار التي سيطرحها، ثم يخرج بموضوع ذي قيمة، ما كان ليخرج به لو أنه ظل يدور في فلك المقدمة وصلب الموضوع والخاتمة ... !
منقوووووووووووول
المفضلات