أبنائي الأعزاء لا تتركوني وحيدة
.. الحمد لله يمه، أنا مبسوطة وعال العال، وكيفك أنت وكيف أولادك ، إن شاء الله تكونوا بخير''.. بهذه العبارات التي تنبع من القلب، تقابل أم ايمن ابنها البكر حين يزورها كل أسبوعين في منزل العائلة الذي بقيت فيه وحيدة بعد رحيل زوجها وخروج جميع أبنائها وبناتها الست إلى بيوت الزوجية، والاستقلال بحياة خاصة تحمل همومها و مشاغلها التي تصلح دائما للتذرع وتفسير الغياب و التقصير. أبناء أم أيمن ليسوا حالة نادرة ولكن المسألة أصبحت تقترب من الظاهرة، خاصة أن الأم التي تبقى وحيدة في بيت العائلة تستشعر نفسها عبئا على حياة أبنائها الأسرية، فالبيوت لم تعد متسعة كما كانت من قبل و الأوضاع الاقتصادية أصبحت تضغط على ميزانية الأسرة، وبقاء الأم في منزل العائلة يمكن الأبناء من المساهمة في تغطية مصروفات الأم بصورة متوازنة، بذلك يبرر بعض الأبناء بقاء أمهاتهم وحيدات في منزل العائلة.
أم ايمن التي تقضي أياما وليالي طوال وحيدة لا يؤنس وحدتها سوى صورة رفيق دربها وأولادها وأحفادها المعلقة على جدران المنزل العتيق كثيراً ما تمارس جميع وسائل الاحتجاج على ما آلت إليه من وحدة موحشة، فتجدها تمتنع عن تناول الطعام، كما تجدها بين الحين والآخر تجهش بالبكاء، هذا الاحتجاج يكون موجها ضد ظروفها وليس ضد الأبناء، فهي في وسط ذلك تستعين بصلواتها ودعائها لأبنائها وأحفادها وتلاوتها للقرآن لتخفف ما بها من أحزان.
معاناتها في وحدتها بدأت مع تخلي ولديها وبناتها الأربع عنها وهي عجوز على أعتاب السبعينات وبقيت ترتجي زياراتهم المتقطعة كطوق نجاة .. إنها تحمد الله على نعمة الصحة، فهي تقوم بخدمة نفسها وصنع الطعام وتناول دوائها بنفسها، إلا أن آلام الظهر تمنعها أحيانا من القيام بإعمال المنزل.
تتساءل بمرارة عما تراه جحودا من أبنائها فهي التي بذلت قصارى جهدها في تربية أبنائها، و تضحياتها المتواصلة لتصل بهم إلى بر الأمان في هذه الحياة، الكثير من التعب و السهر و الدموع التي ذرفتها فرشت طريق مستقبلهم الذي رأت أن الزواج هو تتويج لمشوارها، فليس أجمل للأم من رؤية أبناء أبنائها يمرحون و يملئون الدنيا مرحا و صخبا، ولكنها لا تدري أنها في النهاية تبقى وحيدة تحمل على كاهلها ذكريات تؤرقها و تجعل النوم يجافي مضجعها، تقتنع أنها أدت دورها في الحياة ولكنها تضيق بهذه الوحدة التي لا يمكن أن يخفف من وطئتها سوى الدفء العائلي حتى قبل أية اعتبارات مادية، فهي لا تتمنى لأبنائها أكثر من الصحة والعافية والعمر المديد الذي تخشى أن يواجهوا في نهايته بمثل هذا الجحود.
الأم في هذه الرحلة من المعاناة لا تبوح لأحد بمشكلتها و لا تحاول أن تذكرها للمقربين، وحتى و إن توالت الاعتذارات عن الزيارات الشهرية و نصف الشهرية فإنها ترفض أن تظهر أبناءها بصورة سلبية في أوساط العائلة لذلك تتغاضى عن الشكوى وعندما تسأل عن أبنائها تبادر هي باختلاق الحجج و الأعذار لتحفظ ماء وجوههم في نظر الأقارب.
ترى هل يعلم الوالدان وهما وسط ابنائهم، أن الزمن يدور بسرعة و أنهما سيعودان وحيدين كما كانا قبل انجابهما للأبناء.. يُهجران في هذه المرحلة من العمر، وربما يكون الأبناء أكثر قسوة فيقابلان الجميل بالنكران، وان كان بعض الإباء والأمهات يشاهدون أبناءهم فترات متقطعة من السنة، فان كثيرا من الأبناء لا يعودانهما أبدا.. ومنهم من يبعث بهما إلى دار العجزة، ومنهم من يمتثل لقرار الزوجة المتسلطة أو الزوج الذي لا يرى نفسه في موقع المسؤولية عن أهل زوجته فيرفض أن تقدم لهما زوجته ما يستحقانه منها.
ولعل الشهادات التي أفضى بها عدد من الآباء والأمهات الذين بُعث بهم لدار المسنين قسراً تعكس معاناتهم .. أبو عبد العزيز الذي بلغ من العمر 79 عاما.. كل يوم ينتظر زيارة أبنائه الأربعة له في دار المسنين التي يستضاف بها منذ أربع سنوات، إلا أن انتظاره طال دون أن يراهم..
هو يقول لموظفي الدار..'' أنا لا أريد منهم شيئا، فقط أطمئن عليهم قبل أن ألبي نداء ربي .''
أم عبدالله 65 عاما، بدموع سخية قالت'' إنها حكمة الحياة التي لن يفروا منها أبداً، وكما هجروا وأساءوا إلى والديهم يمكن أن يتعرضوا لذات الفصل مستقبلاُ''.
علماء الدين، أكدوا أن العناية بالوالدين واجب على كل ابن وبنت، وان طاعة الآباء والعناية بهم وخصوصاً في كبرهم، فيه اجر عظيم، ولقد دلت الآيات على وجوب العناية بالوالدين.. قال تعالى:'' وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً''.
وفي هذا الصدد يعلق أستاذ القانون والفقه الدكتور محمد القيسي بالقول:'' من الناس من إذا تزوج تنكر لوالديه، وقلب لهما ظهر المِجَنِّ، فصار يقصر في حقهما، ولا يقدرهما حق قدرهما''. ويضيف: بل ربما قدم طاعة الزوجة على طاعتهما، وربما أهانهما في سبيل إرضاء زوجته، بل ربما طردهما من المنزل أو تركهما وحيدين فيه وهما بأمسِّ الحاجة إلى رعايته.
ولا ريب أن هذا الصنيع عقوق للوالدين، ويخشى على مرتكبه من العقوبة العاجلة التي تكدر صفوه، وتنغص عليه عيشه.
يذكر أن أصحاب الاختصاص في قضايا الأسرة نوهوا أنه يمكن للوالدين توجيه الشكوى تجاه العقوق الذي يلقونه من أبنائهم ولكن المشكلة أن هؤلاء الآباء يحجمون عن تقديم أي شكوى لأي جهة مهما بلغ أبناؤهم من العقوق حرصا منهم على استقرار حياة الأبناء و عدم تنغيصها، فيفضلون تحمل العقوق مهما بلغ على تعريض أبنائهم للمساءلة القانونية، القانونيون أيضا أشاروا أن أحكام قانون الأحوال المدنية في الأردن مستمد من أحكام الشريعة الإسلامية التي ترفض عقوق الوالدين شكلا و مضمونا ولكن المشكلة هي في عزوف الآباء عن تقديم ذلك النوع من الشكاوى.
المفضلات