أحلام الحجة حلوه
سهام البيايضة
وقفت سيارة نقل كبيرة أمام باب الجيران.. صعد ابنهم الشاب إلى صندوق المركبة الكبير، وقام بتفريغ الحاجيات التي تكدست فوق بعضها البعض، أمتعة، أغطية وصرر كبيرة عرفت أنها للملابس حيث لم تكن هناك أي حقائب. بفضول الأطفال وحب الاكتشاف وقفت خلف قضبان باب مدخلنا الحديدي، انظر إلى القادمين الجدد اللذين هرعت إليهما أسرة جارنا أبو إبراهيم، وتحلق حولهما الأولاد والبنات، مصطفين للسلام عليهما، وتقبيل يديهما، قائلين بكل احترام :هاتي يدك يا ستي أبوسها ..هات يدك يا سيدي أبوسها.. والزائران يرددان جملة:الله يرضى عليك يا ابني ! فضول الأطفال، جعلني أسأل ابن جارنا: من هؤلاء..يا داوود ؟..
اقترب طفلٌ بعمري من الباب المغلق قائلاً:هذا سيدي جبر..وهذه ستي حلوة "..مستمراً في التعريف: حضرا من طولكرم.. من فلسطين ! أدركت بمخيلتي الصغيرة بعضاً من المشهد..لم يمض وقت طويل بعد على تلك الغارة التي قامت بها الطائرات الإسرائيلية على مطار ماركا في السادس من حزيران عام 1967..ولم يغب عني هلع والدتي، خوفاً علينا وهي تجمعنا للنزول إلى الطابق السفلي ، وأثناء نزولنا الدرج الخارجي، حملتني بسرعة ،ليتلقفني جارنا أبو ابراهيم من فوق سور البيت، ويضمني إلى عائلته في المغارة التي عثر عليها في بستانهم وأعاد حفرها وترتيبها ..لخزن المؤن وتنك زيت الزيتون و"قطرميزات " المخلل والمكدوس والمربيات .
الحجة حلوه.. كاسمها حلوه ..جمالها الريفي تعجز مجلات العروض والموديلات أن تجد لها مثيلاً على صفحاتها .. جذبتني الحجة حلوه إلى عالمها..بكل ما فيه.. صفاء بشرتها، خصلات شعرها الذهبية التي أحاطت وجهها ،تحت قطع النقود المتراصة التي تحيط بوجهها البهي، وعينيها بلون سماء صيفية صافية ،وطرحتها البيضاء المطرزة أطرافها، بمنمنمات زخرفيه ملونة ، تنسدل من رأسها تكاد تلامس أطراف ثوبها ، وحزامها المخطط المبروم حول خصرها، فوق زخرفات ثوبها السكري المطرز بالأحمر.
عالم جديد يثير فضول طفلة تكتشف العالم، يثيرها كل جديد، عالم ما كنت لأمله أبداً..اجلس فوق درجات سلم بيتنا، أراقبها وهي تتجول حول أشجار البستان، تنادي على داوود بلهجتها الريفية ،ابتسم بطفولة كلما حولت حرف القاف إلى كاف، ثم أتوه عن المعنى عندما تتسارع كلماتها وهي تزجر داوود ،عندما يثير حنقها بشقاوة الأطفال تاركةً إياه ، لتجلس تحت "معرش "العنب، وتناديني لأجلس بقربها وهي تشغل الإبرة والكشتبان في قطعة ثوب بدأت بتطريز أول قطعة منه ..هناك في طولكرم .. فوق عتبة بيتها الحجرية المتجهة إلى الشمس. تنبيهات الوالدة بعدم إزعاج الحجة بفضولي الذي تَخبُره جيداً، لم يكن يمنعني من الذهاب إليها.. طيبتها وبساطتها، يشجعا جلوسي قربها، خاصة عندما تسمح لي بسحب الإبرة بعد أن تغرسها بين خطوط القماش المخرم، المثبت على قطعة الثوب...علني اخفف قليلا من أسئلتي الكثيرة والمستمرة! .
لم اترك شيئاً، إلا وسألتها عنه:من الذي أسماك حلوه ؟ كم عدد أولادك ؟ ماذا تطرزين ؟.. كنت أسال بفضول واستكشاف طفلة، وهي تجاوبني بهدوء وصبر الأمهات .. حدثتني عن فلسطين وطولكم ..وعن حاكورتها، وبيتها المبني من الحجر الأبيض ..والبسطة الممتدة أمام عتبته المطلة على الشمس..
حتى وصلت يوماً إلى جرحها ببراءتي :لماذا تركتم بيتكم هناك؟.. كانت دموعها تتساقط وهي منكبه على التطريز ..مؤكدةً لي، أنها ستعود إليه قريباً..ومن بين طيات منديلها المخطط المبروم ..أخرجت مفتاح بيتها الكبير ذو الحلقة..
قالت:إننا عائدون..هذا مفتاح البيت هناك..أخرجنا اليهود غصباً ،واستولوا على حاكورتنا بعد أن هددونا بدير ياسين .. أبنائي فدائيوننائي فدائيون سيشعلون نار المقاومة في كل حين ..عازمون على تحرير ومقاومة الاحتلال المغتصب للأرض والعِرض...جدودي، أبي، أمي وابني الشهيد مدفونون هناك..بجانب سور حاكورتنا..أنا أم الشهيد ..سأعود ومعي كل أمهات الشهداء ! مفاهيم كثيرة وعيتها من الحجة حلوة .
.أسماء ،مصطلحات يكررها المذياع يومياً، اليهود الصهاينة، احتلال، اغتصاب، مقاومة، تحرير، شهداء.. والمفتاح الأسود الحديدي ذو الحلقة.. لا يزال يشهد على حتمية العودة وحقها ..ووعد مبرم بيننا .. أن أزورها.. عندما تعود قريباً إلى هناك!! سنوات مضت..تفرقت فيها الدروب . ..رحلت الحجة حلوه - رحمها الله-.. كنت حينها خارج البلاد مع زوجي ..أرسلت لي والدتي نعياً، لم يكن حينها نعياً لرحيلها فقط ،بل نعياً لحلمها الذي لم يتحقق في حياتها ..أشياء كثيرة تغيرت وتبدلت واختلفت بعد رحيل الحجة حلوه. اشتد مرض والدتي التي قررت العودة إلى قريتنا في الجنوب، رغبةً في البقاء قرب الأهل والأقرباء.
بعد وفاتها _رحمها الله_ بسنوات قليلة، باع والدي بيتنا لداوود .الذي سكنه وعائلته.. كل المصطلحات والأسماء ، التي أخبرتني بها الحجة حلوة .. تغيرت، حقوق الأبناء والأحفاد تغير، ثوابت القضية الفلسطينية تغيرت ..كل شيء تغير وزاد تعقيداً.. ،فك الارتباط ،السلطة ،اوسلوا ،التذويب والتوطين ،الفساد والمفاوضات ..و ..و.. أمام شاشة التلفاز جلست أتابع فضائح الجزيرة ،وأخبار رجال السلطة بعد مرور اكثر من أربعة عقود ،وكلما أغمضت عيناي ، تعود لي من جديد الحجة حلوة ..بثوبها الأبيض المطرز باللون الأحمر..وطرحتها البيضاء ، صراخي المكبوت يريد أن يصل إليها وأنا أنادي : يا حجة حلوة ..يا حجة حلوه ..لم يخن الأبناء والأحفاد حلم العودة...فقط..تاهت بهم السبل .. وبدون أن اسمع صوتها..كانت تقف فوق عتبة بيتها المطلة على الشمس ..تحمل بيدها مفتاح بيتها الحديدي ذو الحلقة، وباليد الأخرى رفعت سراجاً.. كلما سقط شهيداً ازداد توهجاً.
المفضلات