مقالة مشتركة
كتبها برنار كوشنير، وسفير حقوق الإنسان، فرانسوا زيماري،
ونشرتها صحيفة "لوفيغارو" اليومية
تتقاسم الدبلوماسية والعدالة أوجه تشابه جمة: فقيمهما الجوهرية في تناقض مع قيم الزمن الذي نعيش فيه. كما أن طبيعتهما تثير في حد ذاتها سوء الفهم، بل ربما خيبة الأمل. ذلك أن نفوذ الرأي العام الذي يسترشد بوسائل الإعلام يفرض تأويلا مبسطا للعالم وبساطة التأويل تشكل عائقا أمام كل محاولة للسعي، خلافا إلى ذلك، إلى تبرير الحديث عن واقع العالم المعقد. فضلا عن ذلك، يشجع زمننا الفورية ويتطلب الشفافية بينما يمتثل عمل القضاة والدبلوماسيين للسرية اللازمة التي يفرضها الحوار الطويل بين الأمم.
بيد أن ما يجمع بين الدبلوماسية والعدالة يتجاوز هذا الإحساس المشترك بوجود هوة تفصلهما عن الأجواء السائدة. ففي غضون ستين سنة، أصبحت جميع مجالات القانون دولية، كما أن العلاقات الدولية، التي صارت تتغذى من القانون، أضحت من بين أبرز مصادره. تجدر الإشارة هنا، مثلا، للمساهمة الحاسمة للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي ترقى، منذ 1959، بممارساتنا القضائية والتي كانت أوامرها وراء تحقيق إنجازات مهمة في ميدان القانون الإيجابي المعاصر.
بيد أن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية يعد بمثابة الإنجاز الثوري بامتياز. فهو ثوري لأنه حدث فريد من نوعه في تاريخ البشرية، باعتبار أن 108 بلد وافقوا على الخضوع لسيادة هيئة هم من أنشأها تسعى إلى وصف ومعاقبة أخطر الانتهاكات التي تمس الحقوق الأساسية. بل إنه ثوري لأن وجود المحكمة الجنائية الدولية، عكس المحاكم التي أقيمت على غرار محكمة نورمبرغ، سبق ارتكاب الجرائم التي تختص بمعاقبتها، فهي إذا تشكل نظاما قضائيا منفردا استطاع أخيرا التوفيق بين مبادئ القانون الجنائي الأساسية والوسيلة المكلفة بتطبيقها. وختاما، يعد إنشاء المحكمة ثوريا لأن هذه الأخيرة تكرس مبدأ المسؤولية الفردية بينما اقتصر الأمر في الماضي على عقوبات وحقوق جماعية. وبعد أن كانت إمكانية إقامة المحكمة تعد إلى حد الأمس القريب سرابا، تحولت اليوم إلى واقع لا يمكن الهروب منه. وهو أمر يعيه تماما المسؤولون المحتجزون حاليا في لاهاي لتورطهم في تجنيد الأطفال وإعطاء أوامر بارتكاب جرائم جماعية.
إلا أن هذه العدالة، التي كان يرتقب الذين أوحوا بإنشائها أن تساهم في تحقيق "عالم أكثر أمنا"، تظل ضعيفة. إذ أن دولا كبرى مثل الولايات المتحدة والهند والصين، مازالت لم تنضم للمحكمة، كما أن إجراءاتها تثير جدلا عنيفا، بل إن إدانة رئيس دولة وحيد، السوداني البشير، كانت مبررا لدفع العديد من البلدان في التفكير لحظة في الانسحاب منها، وهو ما لم يقدموا عليه. ورغم أن الاتهامات بالعنصرية الموجهة للمحكمة يرثى لها بالنظر إلى مئات الآلاف من الضحايا التي خلفها صراع دارفور، فإن الأصداء التي تتلقاها تدل على تراجع مبدأ العالمية، وتحث على ضرورة مواصلة تفسير الدور المهم الذي تضطلع به المحكمة والدفاع عنه باستمرار.
لا يمكن تحقق سلام مستدام دون عدالة، وهو أمر لا يختلف فيه اثنان. ولكن إلى أي حد تتوافق الحاجة إلى العدالة مع مبررات المصالحة؟ تلك إشكالية صعبة، ومزعجة لكل من يعتبر، شأنه في ذلك شأن جان هيرش، حقوق الإنسان كضرورة "مطلقة وغير قابلة للتجزئة".
فمن غير الواقعي إنكار تواجد المحكمة الجنائية الدولية في ملتقى منطقين، القانون والسياسة، وتجعل هذه المواجهة من مجلس الأمن، إلى حد ما، نيابة عامة عالمية تقرر مدى ملائمة المتابعات وتضمن حياد سياسة المحكمة الردعية. ويعد ذلك بدون شك الثمن الواجب أداؤه لحماية محكمة تضعفها هجمات الجهات التي ستتضرر من نجاح تحقيقاتها، هذه المحكمة التي تشكل، مع ذلك، في حد ذاتها مكتسبا من مكتسبات الوعي العالمي.
وستتوقف استدامتها كذلك على الحياد المطلق لتحرياتها والتطبيق الصارم للقانون، ولو كان ذلك لصالح المتهمين. فحقوق الإنسان هي، بحكم طبيعتها، حقوق الضحايا، بيد أنها تثبت قوتها المعنوية أيضا بشكل كامل من خلال الدفاع عن المذنبين. إلا أن مستقبل هذه المغامرة المنفردة في تاريخ البشرية، سيتوقف على دعم الحكومات الأكثر نفوذا.
يحق لفرنسا أن تتباهى بمساندتها منذ البداية لمشروع هيئة قضائية جنائية دولية، بما أنها شاركت في إنشائها وتساهم اليوم في سيرها. وقد استجابت فرنسا لذلك بصورة بديهية، باعتبار طابع المشروع العالمي، بطبيعة الحال، ولكن أيضا بالنظر لكون هذه الهيئة تجد جذورها في فكرة فرنسية للغاية، ألا وهي الفكرة الأساسية التي يعتز بها فيكتور هوغو والتي تعتبر أن "غضب العدالة عنصر من عناصر التقدم".
المفضلات