الفصل التاسع الوعد القرآني في سورة الروم
سورة الروم مكية، كان نزولها في منتصف عمر الدعوة الإسلامية في مكة، التي استمرت ثلاث عشرة سنة، وسميت بهذا الاسم لورود كلمة (الروم) فيها. وهي دولة (الروم) القوية، التي كانت أقوى دولة في العالم عصر نزول القرآن، وتتنازع السيطرة على العالم القديم مع دولة الفرس المجاورة لها.
وتحدثت الآيات الأولى من السورة، عن الحرب بين الفرس والروم، وأشارت إلى هزيمة الروم أمام الفرس في جولة سابقة، وأخبرت عن انتصار الروم على الفرس، خلال بضع سنين.
وقد تحدثنا عن جزم آيات السورة بنبأ مستقبلي، حدّدت له بضع سنين، وقد وقع في نهاية المدة التي حددتها الآيات، وأشرنا إشارة سريعة إلى ذلك، في مبحث (تحقق الأخبار المستقبلية في القرآن).
وحديثنا هنا عن تحقق الوعد القرآني الذي قرره مطلع السورة، وعن الوعد القرآني في آخر السورة.
الوعد بانتصار الروم على الفرس:
أولاً: قوله تعالى: (الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 1-7].
المعنى الإجمالي لهذه الآيات هو: أخبرت الآيات عن هزيمة الروم أمام خصومهم الفرس، في المعارك التي وقعت في أدنى الأرض، وأقربها إلى الجزيرة العربية.. ثم جزمت الآيات أن الروم سيهزمون الفرس، بعد انهزامهم أمامهم، وأن انتصار الروم على الفرس سيكون في بضع سنين، وأقصى مدة لها ستكون تسع سنوات، لأن البضع من الثلاث إلى التسع.
وفي الوقت الذي سينتصر فيه الروم على الفرس، سينصر الله المسلمين أيضاً، وبذلك سيفرحون بنصر الله الذي منّ به عليهم. وهذا وعد قاطع نافذ من الله، لا بد أن يتحقق، لأن الله لا يُخلف وعده.
وقد كانت الحروب طاحنة مستمرة بين الدولتين القويتين: الروم والفرس، وكان من أعنفها الحرب التي وقعت بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي منتصف عهد الدعوة في الفترة المكية، شن الفرس حرباً قوية ضد الروم، حيث توجهوا غرباً فاحتلوا بلاد الشام، ودخلوا بيت المقدس سنة (614م)، وتوجهوا شمالاً فاتحين مختلف المدن الرومية، حتى حاصروا العاصمة القسطنطينية.
وسمع العرب أخبار هزيمة الروم أمام الفرس، وكان هذا في السنة السادسة للبعثة، فحزن المسلمون لهزيمة الروم، لأنهم أهل كتاب، بينما فرح المشركون لانتصار الفرس، لأنهم مثلهم يعبدون الأوثان والنار، ويشركون بالله.
وأنزل الله في تلك السنة سورة الروم، وفيها الخبر بانتصار الفرس، والوعد بانتصار الروم عليهم في بضع سنين. ولم يكن في الأفق ما يدل على قرب انتصار الروم على الفرس، فالروم مهزومون، وجيشهم محطم، والفرس يحاصرون القسطنطينية، فكيف يجزمُ القرآن أن الروم المغلوبين سينتصرون على الفرس، الغالبين في بضع سنين؟.
مراهنة أبي بكر للمشرك على انتصار الروم:
تلقّى المسلمون هذا الوعد القرآني باليقين، وصاروا ينشرونه بين المشركين، وكان من أكثرهم فرحاً أبو بكر الصديق، الذي صار ينادي في شوارع مكة أن الروح سينتصرون على الفرس في بضع سنين.
واستبعد المشركون ذلك وأنكروه، وأمام جزم أبي بكر بتحققه جاء أحد المشركين لمراهنته، فراهنه أبو بكر، على أن الروم سينتصرون على الفرس بعد خمس سنين، فإن لم يتحقق ذلك، دفع أبو بكر لصاحبه عدداً من الإبل، وكان هذا قبل تحريم الرهان في الإسلام، لأنه حُرِّم بعد الهجرة.
وانقضت السنوات الخمس، ولم ينتصر الروم، وجاء الرجل يطالب بالرهان، وأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر، فأمره أن يجعل المدة تسع سنين، لأن الآية حددتها ببضع سنين، والبضع من الثلاث إلى التسع، ففعل أبو بكر رضي الله عنه.
وفي السنة التاسعة لنزول الآيات، قام هرقل قيصر الروم بحرب عنيفة، هزم فيها الفرس، ودخل عاصمتهم المدائن، وبذلك تحقق الوعد القرآني، وكسب أبو بكر الرهان، وكان هذا سنة (623م).
لقد حددت الآيات موقع المعركة، التي هزمت فيه الروم: (غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ).
والأدنى هو الأقرب، والمراد به الأرض الأقرب إلى أهل مكة، الذي أنزل الله إليهم الآيات. والأرض الأدنى إلى أهل مكة في بلاد الشام، والمتاخمة للجزيرة العربية.. وقد احتل الفرس الأرض الأدنى للجزيرة العربية، ودخلوا القدس سنة (614م).
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــع
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات