المقدمه
إن موضوع التدواي والرقية بالقرآن الكريم من أهم الموضوعات التي اعتنى بها المسلمون قديما وحديثا، والتي استحوذت على أذهانهم، وشدت انتباههم، وأثارت تساؤلات كثيرة حول مفهوم هذا التداوي، وأبعاده وجوانبه؛ لتحديد جدية هذا الاستشفاء، وكيفية الإفادة منه، مع مراعاة الجائز والممنوع منه. وهذا يدل على حرص المسلمين على فهم كتاب ربهم والإفادة منه، وعلى البحث في ثناياه؛ تجلية لإعجازه، وعظيم تنزيله من لدن حكيم خبير، تأكيداً وتصديقاً لقول الحق تبارك وتعالى: ) وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)(332( (2) وكذلك يدل دلالة واضحة على حب المسلمين لحياة خالية من الأدواء ليكونوا أصحاء أقوياء، ليكونوا أمة قوية سليمة من الأمراض والآفات والعلل التي توهن وتضعف المجتمع. وكذلك يدل على حرصهم على سبل وأسباب الوقاية والعلاج في ظل توجيهات الدين الحنيف، وعلى سعيهم لتحقيق ما جاء في الكتاب والسنة من الأمر والتوجيه بالعلاج والتداوي وعدم الاستسلام للأمراض والعاهات. كل ذلك سعياً منهم إلى التطلع لنيل خيري الدنيا والآخرة، وليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، ويزدادوا يقينا على يقينهم في صدق وعد الله ووعد رسوله، وفي شهود روائع وعجائب ومعجزات آيات الله تعالى ووحيه الكريم. ومشاركة مني في ذلك، وإسهاما في بيان هذه الحقائق؛ كان هذا البحث المتواضع مني نصحا لله ولكتابه ولرسوله وللأمة وأهل الإسلام.
الرسالة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبده ورسوله. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)(327). (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)(328). (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)(329( أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. يقول الله تعالى: )وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)(330(. ويقول أيضاً جل وعلا: )قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء)(331 ((1 )
الرقى الشرعية
وهو بحث موجز على ما تسمح به أطر هذا المؤتمر المبارك إن شاء الله،
ومستعينا بعد الله عز وجل بما كتبه أهل العلم، ومستفيداً من جهودهم المباركة في بيان الحق. وأتقدم بعد شكر الله عز وجل، بالشكر للقائمين على هذا المؤتمر، ولمن أسهم في عقده ماديا ومعنويا، ولمن أسهم فيه علميا، وشارك في بحوثه.
تمهـــيد
إن القرآن الكريم شفاء للقلوب، فهو يزيل الران الذي يعتريها ويعلوها فيمرضها ويهلكها مما يعرض عليها من الآفات بسبب الخرافات والأوهام والضلالات والبدع، وكذلك بسبب ما يرهقها من الوساوس، والخطرات، والشبهات. فإن ذلك يجهد القلوب ويملؤها من الهموم والأحزان والشكوك، ويحملها على الذل والعبودية لغير الله، وعلى الخوف من غير الله تبارك وتعالى. فالقرآن فيه شفاء من هذا كله، لأنه حق، وكلام الله الحق. فإنه يتغلغل في القلوب ويصل إلى سويدائها فتسكن وتطمئن، ثم تشعر بالتيقن من وعد الله المطلق في الحياة الدنيا وما بعدها.
قال تعالى: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)(333(.
ويقول أيضاً عز وجل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين)(333-أ).
ويقول أيضاً تبارك وتعالى: (.... فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)(334 (.(3 )
ويقول أيضاً عز من قائل: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشاء) (335 (4 (والقرآن الكريم شفاء للعقول والفكر الذي انحرف عن الاستقامة وسلامة التفكير وصحة التوبة بسبب الأمراض التي تؤثر على التفكير، فتحول بين العقل وبين مقتضاه، وبين التفكير الصحيح ولوازمه. وأمراض العقول هي الآصار والأغلال التي تقيد العقول وتنحرف بها عن الجادة القويمة والتفكير الصحيح. فالقرآن الكريم شفاء لهذه العقول وتصحيح لمسار الفكر بتخليصها من غل التقليد، ومن التعلق والتبعية لجهة غير معصومة، واتباعها بلا دليل ولا عقل ولا برهان. وبتخليصها أيضاً من العثرات والسقطات في ضلالات موروثات الآباء ومألوفات الأجداد رغم ترديهم في العمى والخرافة، وانحرافهم الفكري، وتلبسهم وخلطهم الحق بالباطل. فالقرآن الكريم شفاء للعقول وهداية ونور لتصحيح مسارات الفكر لتتفق مع الفطرة التي خلقهم الله عز وجل عليها؛ فهو يحرر العقول من ذل التبعية الخاطئة، ويعتق الضمائر البشرية لتمارس حقها في التفكير، ويطلق الفكر من القيود ليتدبر ويتأمل ويستقل في ظل حدوده الشرعية.
قال تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون. بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون. وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قـال مترفوها انا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين)(336) (4)
وفى القرآن الكريم إرشاد للعقول بعد تحريرها من ذل التبعية، وتوجيه إلى الطريق السوي من حيث صحة النظر، وتوجيه الفكر إلى النظر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله، وفي هذا شفاء للعقول من سقام الجهل، واختلال الفكر، وفساد الاستنتاج، وفيه أيضاً كفها عن تبديد الطاقات، وإنفاق الجهود فيما يتعلق بما لا يغني ولا يجدي مثل أمور الغيب التي غيبها الله عن مدارك العقول والحواس.
قال تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)(337( 5
وقال تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء)(338) 5
وقال تعالى: (وفى الأرض آيات للموقنين وفى أنفسكم أفلا تبصرون)(339) 5 وقال تعالى: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون)(340(5
وقال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب)(341). 6
وقال تعالى: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً)(342). 6 وفى القرآن الكريم شفاء للنفس البشرية وعلاجها وصحتها من أمراض الهوى وأدناس وأرجاس متابعة الملذات وتحقيق الشهوات، ومن الطمع والحسد وغيرها من الأمراض النفسية والاجتماعية التي تفتك بالنفس، وتضعف المجتمع، وتجعل الإنسان أسيراً لأهوائه وشهواته، وسجينا لملذاته وأطماعه.
فالقرآن الكريم يحرر النفس من هذا الأمر ومن الانقياد وراء الزائل الفاني لتسمو برغباتها وأهدافها نحو الكمال البشري، ولتعلو عن مواطن العلل والآفات والأمر بالسوء، ولترقى إلى أعلى درجات الاطمئنان. فالقرآن الكريم شفاء للقلوب، وشفاء للعقول، وشفاء للنفوس البشرية، وهذا ما يريده الله عز وجل من خلقه أن يكونوا أصحاء أقوياء. إن المرء إذا سلم قلبه، وصح عقله بالمنهج القرآني، وتغذى به، واستقام على هديه ثم اطمأنت نفسه، وسلمت من آفاتها وأمراضها، وترفعت عن الأمر بالسوء أو الهم بالباطل. أقول إذا حصل ذلك كله للمرء فإنه الإنسان وإنه العبد الذي أراده الله تعالى، فانه بذلك يتعرف حقيقة على الغاية من خلقه وإيجاده، ويتعرف على صفات الباري جل وعلا، ويدرك كماله وجلاله في خلقه وإبداعه، وفي أمره ونهيه،
ويتعرف كذلك على غاية إرسال الرسل وإنزال الكتب، وعلى غاية الحياة الدنيا، ويدرك البرزخ وما بعد الموت، والحياة الأخرى بعد البعث والنشور وبعد الحساب والجزاء من الله تعالى على ما قدم وما فعل وعمل، وبذلك يدرك ويتعرف على حقيقة العلاقة بين الخالق والمخلوق، ويدرك دوره والأعمال المنوطة به في هذه الحياة الدنيا من خلافه وعمارة، ومن ثم يلتزم ما يمليه عليه القلب السليم والعقل الصحيح والنفس المطمئنة، فتزول الأمراض والأحقاد التي تفتك بالفرد أولاً ثم بالمجتمع ثانياً، تلك الأمراض التي تذهب بتماسك المجتمع والجماعة، وتزلزل أمنها وطمأنينتها، وبالمقابل تسود الأخلاق وتظهر الفضيلة ويشيع المعروف ويزول المنكر، وتكثر الطيبات وتوءد المنكرات وترتفع الآصار والأغلال، فتنطلق القلوب السليمة والعقول الصحيحة، والنفوس المطمئنة إلى بناء المجتمع والأمة على أساس صحيح ومنهج رباني قرآني قويم.
قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)(343). 7
وقال تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون)(344). 7
[عدل]التداوي بالقرآن
إن التداوي بالقرآن الكريم والاستشفاء به من الأمراض الجسمية والآفات والعلل العضوية عن طريق تلاوته أو قراءة بعض سوره وآياته هو المقصود في هذا المقام، ولأجله ينعقد هذا المؤتمر المبارك إن شاء الله، سواء كان سبب المرض من سوء في التصرفات، أو التعرض لبعض الإيذاء من الدواب والهوام، أو مس وإيذاء واعتداء من الجن أو غيرهم من المخلوقات، أو كان تلفا وخللا في بعض الأجهزة العضوية وغيرها، وهذا موضوع قد كثر حوله الكلام وطال فيه الجدل والخلاف، بين مانع من ذلك جملة وتفصيلاً بأدلة عقلية وأقيسة منطقية بزعمه، وبين مغالٍ في إجازته معتمداً عليه معرضاً عن بذل الأسباب المادية الحسية وعن التداوي بغيرها والاستشفاء بما نفعه من خلال التجربة، والدراسة العلمية. والحق إنما يتوسط بين الجافي والغالي، ويعتدل بين الإفراط والتفريط. والتداوي والاستشفاء بالقرآن الكريم جاء في النصوص الشرعية الثابتة، ويقرره العقل والقياس الصحيح، لذلك وجب التصديق به، والإيمان بما جاء به النص، وأجازه العقل،
والنصوص الشرعية كثيرة جداً، منها:
أ- قول الله تعالى
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)(345). 8 وقوله تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء)(346). 8 ولفظ "شفاء" عام يتناول شفاء الأمراض القلبية والعقلية، كما يتناول الأمراض الجسدية والعوارض المادية الحسية. والأصل بقاء العـام على عمومه وعدم تخصيصه إلا بمخصص، ولا مخصص هنا- على ما قرره العلماء.
ب- ما جاء في سنة رسول الله صلى عليه وسلم، فقد ثبت أنه استشفى واسترقى ببعض آيات القرآن، وأمر بذلك وأوصى به، وفعله عليه الصلاة والسلام لنفسه ولغيره، وأقره كذلك من فعل بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم.
روى الإمام البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به"(347). 9 وروى الشيخان: البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: انطلق نفر من أصحاب رسول الله في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم. فلدغ سيد الحي فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء. فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منك من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلا. فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عقال ……." وفيه إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكروا له، فقال عليه الصلاة والسلام: "وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، واقسموا واضربوا لي معكم سهماً"(3489).
يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله: مربي وقت بمكة، سقمت فيه، وفقدت الطبيب والدواء ، فكنت أعالج بها (بالحمد لله رب العالمين): آخذ شربة من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مراراً، ثم أشربه، فوجدت لذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد على ذلك عند كثير من الأوجاع فأنتفع بها غاية الانتفاع(349).10 وليس معنى هذا ولازمه ترك التداوي والاستشفاء بالأدوية الطبيعية المادية، والإكتفاء بقراءة آيات من القرآن الكريم. فليس ذلك من الرشد في الدين، ولا من الفقه لسنن الله تعالى الكونية. ولكن الشأن هو الجمع بين هذا وذاك، والانتفاع بالأمرين، والجمع بين بذل الأسباب الحسية والمادية؛ مع الاعتماد على ما جاء به التوجيه الشرعي، وتعلق القلب بالله تعالى وحده، فهو النافع وهو رب الأسباب تبارك وتعالى. وأما إقرار العقل لهذا التداوي فواضح؛ إذ العقل لا يحيل ذلك ولا يمنعه أبداً، كيف وقد جاء الخبر الصادق بذلك، والعقل قد صدق المخبر فيما هو أعظم من مجرد الإخبار بالاستشفاء بتلاوة بعض الآيات والسور. ثم إنه لا يترتب على التصديق به أمر مستحيل؛ لأن العقل قد قرر أن الله سبحانه وتعالى هو المالك الفاعل المتصرف في الكون وما فيه من خلق، وهو سبحانه رب الأسباب والأدواء التي لا تشفي ولا تنفع بذاتها، بل هو الشافي والدافع لجميع الأفراد، وهو النافع والواهب للصحة والعافية، وهو الذي يحول بين الأسباب وبين مقتضياتها، وهو الذي يجعل فيها النفع سبحانه.
فالاستشفاء والتداوي بتلاوة آيات وسور من القرآن على الأمراض الجسدية قررتها الشريعة السمحة، وجعلتها أسباباً شرعية صحيحة نافعة بإذن الله تعالى، كما تقررها العقول الصحيحة. وهذا التداوي هو ما يسمى بالرقى الشرعية، وهو عنوان هذا البحث المتواضع. وهو ما سأبين بعض جوانبه إن شاء الله، والله تعالى أسأل أن ينفعنا جميعا بما جاء في كتابه الكريم من شفاء للقلوب والأبدان، وأن يهدي المسلمين لأسرار كتابه العظيم بما يمنحهم أسباب الصحة والعافية، ويسلك بهم سبل الحياة السليمة القوية، ليزدادوا تمسكاً بكتاب ربهم، وتقديراً له، وإقبالاً عليه، وإفادة منه، إنه تعالى ولي ذلك والقادر عليه.
الرقية الشرعية
تعريفها
الرقية- بسكون القاف- ويقال: "رقى"- بالفتح في الماضي، "ويرقي" بالكسر في المستقبل، و"رقيت" فلاناً- بكسر القاف، "أرقيه" ويقال: "استرقى"، أي طلب الرقية. والرقية تجمع على رُقى. وتقول: استرقيته، فرقاني رقية، فهو راق(350). 11 ويقال: رقى الراقي رقية ورقياً، إذا عوذ ونفث في عوذته. ويعرفها ابن الأثير: الرقية، العُوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات(351). 11 ويقول ابن منظور: والرقية: العوذة، معروفة. قال رؤبة: ولا رُقية إلا بها رقيانـــي(352) 11. فما تركـا من عـُـوذة يعــرفانها وقال أيضاً: والعوذة والمعاذات والتعويذ: الرقية، يرقى بها الإنسان من فزع أو جنون، لأنه يعاذ بها، وقد عوذه. يقال عوذت فلانا بالله وأسمائه، وبالمعوذتين، إذا قلت: أعيذك بالله وأسمائه من كل ذي شر(353). 12 وعرفها بعض الفقهاء: ما يرقى به من الدعاء لطلب الشفاء(354). 12 وقال ابن التين: الرقي بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى الحسنى هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى، ولما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني(355). 12
وجودها قبل الإسلام
عن عمرة بنت عبد الرحمن: "أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي، ويهودية ترقيها فقال أبو بكر ارقيها بكتاب الله"(356). 12 وعن ابن عباس أن ضماداً- هو ضماد بن ثعلبة الأزدي- قدم مكة وكان من أزد شنوءة وكان يرقى من هذه الريح، فسمع سفهاء أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي. فقال: فلقيته. فقال: "يا محمد إني أرقى من هذه الريح. وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحمد لله نحمده ونستعينه…….." الحديث(357). 12 وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: أعرضوا على رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك(358(13
مشروعيتها
أ- رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه:
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه ثم نفث فيهما وقرأ: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات(359). 13 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذات فأخذ بها وترك ما سواها(360). 13
ب- رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره:
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله، يمسـح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس أذهب الباس، واشف إنك الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما"(361). 14 وعن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، ويقول: "إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة"(362). 14
جـ- رسول الله صلى عليه وسلم يرقيه غيره:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل عليه السلام، قال: "بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين"(363). 14 وعن أبي سعيد أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا محمد اشتكيت؟ قال: نعم، قال: "بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك"(364).15
د-الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر ويندب غيره، ويرخص في الرقية:
عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة. فقال: "استرقوا لها فإن بها النظرة"(365). 15 وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله- ثلاثا- وقل- سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"(366). 16 وعن خــولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نزل منزلا ثم قال: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك(367). 16
هـ- الرسول صلى الله عليه وسلم يقر غيره على الرقية:
عن جابر رضي الله عنه أن آل عمرو بن حزم قالوا: يا رسول الله انه كانت عندنا رقى نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى. قال: فعرضوا عليه، فقال: "ما أرى بها بأساً، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل"(368). 16
أنـــــــــواع الرقـــــــــــــى
أ- أنواع الرقى من جهة متى تقرأ:
- أولاً: تقرأ الرقية لدفع البلاء قبل وقوعه.
عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول .... الحديث(370). 17 وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في أول يومه أو في أول ليله: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءفي الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات- لم يضره شيء في ذلك اليوم، أو في تلك الليلة"(371). 18 وعن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"(372). 18 وتقدم ذكر حديث خولة بنت حكيم فيمن إذا نزل منزلاً قرأ أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق مرفوعاً(373). 18
ثانياً- تقرأ الرقية لدفع البلاء بعد وقوعه.
وقد تقدم ذكر طائفة من الأحاديث المرفوعة الصحيحة في هذا المعنى عن عائشة في رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه وشكواه، وعن عثمان بن أبي العاص في وضع اليد على موضع الألم من الجسد ثم القراءة ونحوها. مما يفيد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ورقيته لنفسه، ورقيته لغيره، ورقية غيره له، وترغيب النبي في ذلك، ووصيته لمن وجد ألما أونزل به بلاء(374).
'ب - أنواع الرقى من جهة ما يقرأ به
أولاً: الرقية بالقرآن الكريم.
ثبت فيما تقدم ذكره قراءة سورة الفاتحة، كما في حديث النفر الذي انطلقوا في سفرة، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم للراقي قراءة سورة الفاتحة وإنها رقية(375). 19 وثبت كذلك أن سورة البقرة رقية ونافعة، كما في حديث أبي أمامه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرأوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة"(376-377). 19 وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة"(378). 19
حكم رقى الجاهلية وأهل الكتاب
ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله، قال: .... وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية، فقال: لا بأس أن يرقي بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله. قلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم، إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله. ثم (قال: وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقي عائشة ارقيها بكتاب الله). 379 . 20 وقال أيضاً: وقال المازري: اختلف في استرقاء أهل الكتاب، فأجازها قوم، وكرهها مالك لئلا يكون مما بدلوه. وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه، وهو كالطب سواء، كان غير الحاذق لا يحسن أن يقول والحاذق يأنــف أن يبدل حرصـاً ويقول الدكتور على بن نفيع العلياني: وفى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "ارقيها بكتاب الله"، يعني ارقيها بكتاب الله بما في التوراة. وفى هذا دلالة على أن اليهود إنما يغيرون الأحكام والعقائد، وأما الرقى، فإنهم لم يغيروها حفاظا على فائدتها. فإنها إذا غيرت لا تنفع، هذا الذي يظهر، والله اعلم. وإلا لو كانت مما دخله التحريف لما أمنها أبو بكر الصديق على الرقية(383 ).
حكم الرقية،وشروطها، وضوابطها
ذكر جماعة من العلماء شروطاً لا بد من مراعاتها لتكون الرقية جائزة مقررة شرعاً، وللانتفاع بها من جانب آخر:
أولاً: أن لا يعتقد أنها تنفع بذاتها دون الله. فإن اعتقد ذلك فإنها محرمة لما فيها من الشرك. فالواجب اعتقاد أنها سبب لا تنفع إلا بإذن الله عز وجل(384). 21 ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح يضار به لا بحده فقط، فمتى كان السلاح تاماً لا آفة فيه، والساعد قوياً، والمانع مفقوداً، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير"(385). 21
ثانياً: ألا تكون الرقية مما يخالف الشرع، كأن تتضمن دعاء غير الله، أو استغاثة بالجن، وما أشبه ذلك. فإنه محرم لما فيه من الشرك(386). 21
ثالثاً: أن تكون بكلام عربي، وتكون مفهومة معلومة، فإن كانت من جنس الطلاسم والشعوذة فإنها لا تجوز(391). 22 فلا تكون بالحروف المقطعة، والكلمات المبهمة؛ وإن كانت باللغة العربية. ولا تكون على هيئة محرمة، كأن يتعمد الرقية في الحمام، أو يكتب حروف أبا جاد، أو بالنظر في النجوم وما شابه ذلك..
قال ابن عباس رضي الله عنه في قوم يكتبون أبا جاد، وينظرون في النجوم: "ما أدرى، من فعل ذلك له عند الله خلاق"(392). 23 يقول الإمام الخطابي رحمه الله: "ما كان من الرقى مفهوم المعنى، وكان فيه ذكر الله تعالى، فإنه مستحب، متبرك به"(393). 23 ويقول الإمام النووي رحمة الله: "الرقي بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة لا نهي فيه، بل هو سنة"(394). 23 ويقول الإمام ابن حجر رحمه الله: "وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى وبأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى، واختلفوا في كونها شرطا، والراجح أنه لابد من اعتبار الشروط المذكورة"(395). 23
هل الرقية عامة لكل داء أم مخصوصة
يقول الإمام النووي رحمه الله في شرحه لحديث أنس في الرخصة في الرقية من العين والحمة والنملة: "ليس معناه تخصيص جوازها بهذه الثلاثة وإنما معناه أنه سئل عن هذه، فأذن فيها. ولو سئل عن غيرها لأذن فيه. وقد أذن لغير هؤلاء، وقد رقى هو صلى الله عليه وسلم في غير هذه الثلاثة"(396). 23
ويقول الإمام ابن حجر في شرحه لحديث أنس في الإذن في الرقية من الحمة والأذن: "وأما رقيه الأذن، فقال ابن بطال: المراد وجع الأذن، أي رخص في رقية الأذن إذا كان بها وجع، وهذا يرد الحصر الماضي في الحديث المذكور في "باب من اكتوى"، حيث قال: "لا رقية إلا من عين أو حمة". فيجوز أن يكون رخص فيه، بعد أن منع منه أو يحتمل أن يكون المعنى لا رقية أنفع من رقية العين والحمه، ولم يرد نفي الرقى من غيرهما(397). 24 وقال أيضاً في شرحه لحديث ابن عباس فـي المرأة التي كانت تصرع وتنكتشف: "وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء، والالتجاء إلى الله أنجح وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية....(398). 24 ونقل صاحب الفتح الرباني عن الإمام النووي في حديث أبي سعيد عند قوله: وما أدراك أنها رقيه: "فيه التصريح بأنها رقية، فيستحب أن يقرأ بها على اللديغ والمريض، وسائر أصحاب الأسقام أو العاهات(399). 24 ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية: "فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود"؛ "لا رقيه إلا من عين أو حمة"- والحمه فوق السموم كلها. فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد نفي جواز الرقية في غيرها، بل المراد به: لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحمة، ويدل عليه سياق الحديث. فإن سهل بن حنيف قال لما أصابته العين: أو في الرقي خير؟ فقال: لا رقية إلا في نفس أو حمة. ويدل عليه سائر أحاديث الرقى العامة والخاصة(400). 24
ويقول شيخنا محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله- في تعليقه على باب ما جاء في الرقى والتمائم من كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وظاهر كلام المؤلف: أن الدليل لم يرخص بجواز القراءة إلا في هذين الأمرين (العين، والحمة)، ولكن ورد بغيرهما، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفخ على يديه في منامه بالمعوذات ويمسح بهما ما استطاع من جسده، وهذا من الرقيـة، ليس عيناً أو حمة. ولهذا يرى بعض أهل العلم الترخيص فــي الرقية من القرآن للعين والحمة، وغيرهما عامة، ويقول: إن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا رقية إلا من عين أو حمة"؛ أي لا يُطلب الاسترقاء إلا من العين، والحمة. فالمصيب بالعين "العائن"، يطلب منه أن يقرأ على المعيون"(401). 25
يتبع
المفضلات