عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله . ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه » متفق عليه . « من عمل عملا ليس عليه أمرنا - فهو رد » متفق عليه .
هذان الحديثان العظيمان يدخل فيهما الدين كله ، أصوله وفروعه ، ظاهره وباطنه . فحديث عمر ميزان للأعمال الباطنة ، وحديث عائشة ميزان للأعمال الظاهرة .
ففيهما الإخلاص للمعبود ، والمتابعة للرسول اللذان هما شرط لكل قول وعمل ، ظاهر وباطن . فمن أخلص أعماله لله متبعا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا الذي عمله مقبول ، ومن فقد الأمرين أو أحدهما فعمله مردود ، داخل في قول الله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } . [ الفرقان : 23 ]والجامع للوصفين داخل في قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } الآية ، [ النساء : 125 ] . وقوله تعالى { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] . أما النية : فهي القصد للعمل تقربا إلى الله ، وطلبا لمرضاته وثوابه . فيدخل في هذا : نية العمل ، ونية المعمول له .
أما نية العمل : فلا تصح الطهارة بأنواعها ، ولا الصلاة والزكاة والصوم والحج وجميع العبادات إلا بقصدها ونيتها ، فينوي تلك العبادة المعينة . وإذا كانت العبادة تحتوي على أجناس وأنواع ، كالصلاة ، منها الفرض ، والنفل المعين ، والنفل المطلق . فالمطلق منه يكفي فيه أن ينوي الصلاة . وأما المعين من فرض أو نفل معين - كوتر أو راتبة ، فلا بد مع نية الصلاة أن ينوي ذلك المعين . وهكذا بقية العبادات .
ولا بد أيضا أن يميز العادة عن العبادة . فمثلا الاغتسال يقع نظافة أو تبردا ، ويقع عن الحدث الأكبر ، وعن غسل الميت وللجمعة . . ونحوها ، فلا بد أن ينوي فيه رفع الحدث ، أو ذلك الغسل المستحب . وكذلك يخرج الإنسان الدراهم مثلا للزكاة ، أو للكفارة ، أو للنذر ، أو للصدقة المستحبة ، أو هدية . فالعبرة في ذلك كله على النية . ومن هذا : حيل المعاملات إذا عامل معاملة ظاهرها وصورتها الصحة ، ولكنه يقصد بها التوسل إلى معاملة ربوية ، أو يقصد بها إسقاط واجب ، أو توسلا إلى محرم ، فإن العبرة بنيته وقصده ، لا بظاهر لفظه فإنما الأعمال بالنيات .
ويدخل في ذلك جميع الوسائل التي يتوسل بها إلى مقاصدها ، فإن الوسائل لها أحكام المقاصد ، صالحة أو فاسدة ، والله يعلم المصلح من المفسد .
وأما نية المعمول له : فهو الإخلاص لله في كل ما يأتي العبد وما يذر ، وفي كل ما يقول ويفعل ، قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ البينة : 5 ] وذلك أن على العبد أن ينوي نية كلية شاملة لأموره كلها ، مقصودا بها وجه الله ، والتقرب إليه ، وطلب ثوابه ، واحتساب أجره ، والخوف من عقابه . ثم يستصحب هذه النية في كل فرد من أفراد أعماله وأقواله ، وجميع أحواله ، حريصا فيه على تحقيق الإخلاص وتكميله ، ودفع كل ما يضاده : من الرياء والسمعة ، وقصد المحمدة عند الخلق ، ورجاء تعظيمهم ، بل إن حصل شيء من ذلك فلا يجعله العبد قصده ، وغاية مراده ، بل يكون القصد الأصيل منه وجه الله ، وطلب ثوابه من غير التفات للخلق ، ولا رجاء لنفعهم أو مدحهم . فإن حصل شيء من ذلك دون قصد من العبد لم يضره شيئا ، بل قد يكون من عاجل بشرى المؤمن . فقوله صلى الله عليه وسلم : « إنما الأعمال بالنيات » أي : إنها لا تحصل ولا تكون إلا بالنية ، وأن مدارها على النية . ثم قال : « وإنما لكل امرئ ما نوى » أي : إنها تكون بحسب نية العبد صحتها أو فسادها ، كمالها أو نقصانها ، فمن نوى فعل الخير وقصد به المقاصد العليا - وهي ما يقرب إلى الله - فله من الثواب والجزاء الجزاء الكامل الأوفى . ومن نقصت نيته وقصده ، نقص ثوابه ، ومن توجهت نيته إلى غير هذا المقصد الجليل ، فاته الخير ، وحصل على ما نوى من المقاصد الدنيئة الناقصة .
ولهذا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا ليقاس عليه جميع الأمور ، فقال : « فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله » أي : حصل له ما نوى ، ووقع أجره على الله « ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » خص فيه المرأة التي يتزوجها بعدما عم جميع الأمور الدنيوية لبيان أن جميع ذلك غايات دنيئة ، ومقاصد غير نافعة وكذلك حين سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، أو حمية ، أو ليرى مقامه في صف القتال " أي ذلك في سبيل الله ؟ " فقال : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » وقال تعالى في اختلاف الإنفاق بحسب النيات : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } [ البقرة : 265 ] . وقال : { وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } . [النساء : 38 ] .وهكذا جميع الأعمال .
والأعمال إنما تتفاضل ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العامل من الإيمان والإخلاص ، حتى إن صاحب النية الصادقة - وخصوصا إذا اقترن بها ما يقدر عليه من العمل - يلتحق صاحبها بالعامل ، قال تعالى : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ النساء : 100 ]وفي الصحيح مرفوعا « إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما » ، « إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم - أي : في نياتهم وقلوبهم وثوابهم - حبسهم العذر » وإذا هم العبد بالخير ، ثم لم يقدر له العمل ، كتبت همته ونيته له حسنة كاملة .
والإحسان إلى الخلق بالمال والقول والفعل خير وأجر وثواب عند الله ، ولكنه يعظم ثوابه بالنية . قال تعالى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } [ النساء : 114 ] .
أي : فإنه خير ، ثم قال تعالى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 114 ] فرتب الأجر العظيم على فعل ذلك ابتغاء مرضاته . وفي البخاري مرفوعا : « من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله » فانظر كيف جعل النية الصالحة سببا قويا للرزق وأداء الله عنه ، وجعل النية السيئة سببا للتلف والإتلاف . وكذلك تجري النية في المباحات والأمور الدنيوية ، فإن من قصد بكسبه وأعماله الدنيوية والعادية الاستعانة بذلك على القيام بحق الله وقيامه بالواجبات والمستحبات ، واستصحب هذه النية الصالحة في أكله وشربه ونومه وراحاته ومكاسبه : انقلبت عاداته عبادات ، وبارك الله للعبد في أعماله ، وفتح له من أبواب الخير والرزق أمورا لا يحتسبها ولا تخطر له على بال . ومن فاتته هذه النية الصالحة لجهله أو تهاونه ، فلا يلومن إلا نفسه . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنك لن تعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا أجرت عليه ، حتى ما تجعله في في امرأتك » .
فعلم بهذا : أن هذا الحديث جامع لأمور الخير كلها . فحقيق بالمؤمن الذي يريد نجاة نفسه ونفعها أن يفهم معنى هذا الحديث ، وأن يكون العمل به نصب عينيه في جميع أحواله وأوقاته .
المفضلات