النهر الهادئ يجري عميقًا
توجان فيصل
خبرني - كتبت توجان فيصل في صحيفة الراية القطرية : قديمًا قيل "الحسن يظهر حسنه الضد".. والعكس صحيح صورة الحكم في الأردن لا تظهرها المعارضة بدقة, لأن المعارضة التي كانت, تاريخيا , تنتظم طيفا واسعا متباينا في تصنيفاته وتوصيفاته من أقصى اليمين لأقصى اليسار, ومن القومية والأممية إلى القطرية, باتت الآن تنتظم كامل الشعب تقريبا .
فقد انضم إليها, وبتعاظم منذ توقيع اتفاقية وادي عربة, خيرة من كانوا قديما يسمون "رجالات الدولة". وتلاهم رجال ونساء عاديون , وصولا في الأيام القليلة الماضية لجميع طلاب الثانوية العامة,ومن تبقى من الأمهات وربات البيوت ممن كن يغافلن أزواجهن لقلب التلفاز عن المحطات الإخبارية إلى "فتافيت", وينصحن أبناءهن كل صباح قبل الذهاب للمدرسة أو الجامعة بضرورة الابتعاد عن السياسية.
والفضل في هذا التوافد الجمعي إلى معسكر المعارضة, أن فشل الدولة وصل حد العجز عن تصحيح وجمع علامات امتحان الثانوية العامة وإعلانها !! هذا الذي كان طوال عقود قيام المملكة, ومن قبلها الإمارة,أمرا روتينا يقوم به موظفون وتربيون كادحون محترمون , يدويا وبالقلم والورق.. إلى أن وجدت فيه "الحكومات الرقمية" المستجدة فرصة خصخصة لما تبقى من فتات مهمات الدولة لم يخصخص فسقط معقل آخر مصداقية رسمية بسقوط نتائج التوجيهي في مستنقع العقود التنفيعية, وربما أكثر من هذا مما لم يتكشف بعد لأن غبار الزلزال لم ينقشع, والمنقذون الرسميون آخر من يمكن تصديقهم .. وسمعنا أمهات لم يسمع صوتهن من قبل في شأن عام يطالبن الحكومة بوزير تربيتها ورئيسها ذاته بالرحيل ما داموا لا يجيدون عملهم !!
بالنظر لموزاييك خارطة للمعارضة باتت بحجم وطن , يصعب تحديد صورة الضد إلا في إطاره العام الذي جعل كلمة "دولة " في الأردن تعني نادي الحكم الضيق والحصري المستثنى منه كامل الشعب. لهذا فإن تظهير صورة هذه "الدولة " يبدو أسهل وأدق , بالنظر تحديدا إلى من تفرزهم هي باعتبارهم معارضيها, وحسب مفهومها للمعارضة "أعداءها" فتستهدفهم بإجراءات قمع استثنائية .
آخر اثنين استهدفتهما "الدولة" عبر محكمة أمنها, هما الدكتور سفيان التل والكاتب موفق محادين. والرجلان نمطيان تماما في إبراز الطيف المدموغ رسميا بدمغة "معارضة" .. بالطبع في غياب الاعتراف الرسمي بأن حجم المعارضة أوسع من هذا بكثير .
الدكتور سفيان التل من بين القادمين للمعارضة من صفوف "رجال الدولة". وهو كمعظم هؤلاء, لم ينج من المطاردة والاعتقال في شبابه, كون الشباب الوطني يتسم بحماسة لا تناسب دعاة " استقرار" الأوضاع على حالها . وهذا الاستقرارصفة تجمع دوما بالأمن في خطاب رسمي يتغنى " بأمن واستقرار" المملكة باعتباره نعمة لم تتح لكل المنطقة . وظلت هذه النغمة الرسمية قائمة حتى بعد احتلال كامل الضفة الغربية و في ظل ما اسمي رسميا بحالة" اللاحرب واللاسلم ".
و"الأمن والاستقرار" هما ما برر بهما العيش صراحة في ظل الأحكام العرفية لستة وثلاثين عاما , وفي ظل بدائلها الأقل صراحة بعد انتفاضة نيسان عام 89 التي أدت لمرحلة ما تزال الحكومة تسميها " ديمقراطية " حتى مع العودة لتزوير انتخابات مجالس النواب ثم مع تغييب تلك المجالس تماما.
في ظل الأحكام العرفية عاد الدكتور المهندس سفيان التل بوثيقة علمه الدولية لينخرط في سلك الدولة وصولا لمواقع متقدمة فيها قبل أن ينتقل لمواقع أهم في المنظمات الدولية باعتباره خبيرا بيئيا.. إلا أن موضوع البيئة تسيس عالميا بعد تكشف أخطار تهدد الكون وليس قطرا بعينه أو أمة بعينها . وهنا بدأ نشاط خبيرنا يتجلى وطنيا في التحذير من مخاطر نابعة عن أو مهملة من جانب, سياسات حكومية.
وكان أهم ما وجد صدى لدى الأردنيين من محاضرات وكتابات الدكتور سفيان, كشفه لحقيقة المخاطر المتأتية من مفاعل ديمونة الإسرائيلي التي أغفلتها تماما اتفاقية وادي عربة.. ثم من مئات ألوف أطنان سكراب الحديد الملوث باليورانيوم المنضب الذي سمحت الحكومات الأردنية باستيراده من العراق لصالح كارتيل شركات الحديد المحلية التي رئيس إحدى تلك الحكومات من أكبر مالكيها .
فالناس يهمهم رأي خبير دولي معتبر ووطني محترم في آن , في شأن لا أقل من تعرضهم للرياح المسرطنة الآتية من جار السوء, وحديد يحوّل حتى بيوتهم التي يدفعون فيها تحويشة عمرهم, باسم تسليحها لقفص مسرطن يشع باليورانيوم المنضب.. ومن هنا انطلق الرجل لمخاطبة هموم سياسية متفرعة عن أخطاء قاتلة كهذه. وبدل أن يجري الاستماع للعالم المكرّم بأوسمة عالمية جرى زجه في السجن "على ذمة التحقيق" وليس لإدانة بجرم .. ونذكر بخبر نشرته الصحف الأردنية قبل أسابيع ولم تكذبه أي جهة رسمية ,عن "تكرار" سارقي أجهزة الصرف الآلي في البنوك لجريمتهم ,كونهم بقوا بعد اقترافها لأول مرة وقبل أيام فقط من تكرارها ,طلقاء نتيجة تدخل شخصيات متنفذة لصالحهم.
أما الكاتب موفق محادين فيمثل نموذج المعارض التقليدي الذي تصدر الصورة منذ عقود وتحديدا منذ بداية مرحلة الأحكام العرفية التي فرضت بدعم غربي عام 57 حين كان " بعبع " المعسكر الغربي يتمثل في الفكر الاشتراكي واليساري بكامل تلاوينه.
والأستاذ موفق يمثل النموذج الأكمل- البروتوتايب- للمثقف العربي اليساري . فهو مثقف موسوعي يجمع المعرفة الدقيقة بالفكر الغربي والعالمي بالتراث العربي الإسلامي وغير الإسلامي.
وهو كزميله في أحدث اعتقال لمفكرين, "عالم" من حيث اعتماده العقل والتحليل العلمي حتى في أكثر الشؤون العامة عاطفية. ولهذا إضافة لسوية ثقافية نخبوية تتجاوز كثيرا قدرة القارئ العادي على تتبع إشاراتها المعرفية فعموده اليومي القصير كان لا يكاد يلقى أي تعليقات بل ويلقى عددا محدودا من التقييمات رغم انه يصنف ضمن " الأكثر قراءة " .. حتى كان اعتقاله الأخير.
ومحادين ليس نخبويا لأنه يريد أن يكون كذلك, بل لأنه لا يملك أن يخرج من كثافة ثقافته لضحالة تسم أغلب الصحافة الشعبية . يضاف لهذا ضرورات التقية التي جعلته يلجأ أحيانا - وهذا ما أشرت له في مقالة سابقة من على هذا المنبر- لأسلوب كليلة ودمنة محملا بإرث ثقافي ثقل كثيرا منذ عصور ابن المقفع .. وأخيرا وهو الأهم , لأن الكاتب رجل متواضع جم الأدب عازف عن أي شعبية وغير باحث عن أي موقع قيادي. ولهذا فهو يؤثر دور طالب العلم .
وهو إن غادر كتبه التي يدفع فيها كل قرش يزيد على حاجاته الأساسية (بحيث أصبح استثماره الوحيد هذا, في زمن الاستثمار في العقار ومطاعم الوجبات السريعة ,مكتبة قد تملك الحكومة واحدة بحجمها ولكنها لا تملك واحدة بنوعيتها ) لجلسة حوار, تجده أكثر الحضور استماعا وأقلهم حديثا .. حتى في حديثه للجزيرة الذي اعتقل بسببه , كان مقلا ومتواضعا, صارما حقيقة ولكن غير مزاحم كما بدا الضيف الآخر الممثل للصوت الرسمي .
ولهذا وصفتُهُ , مستغربة اعتقاله , "بالهادئ" الذي لا يستفز حتى أجهزة أمن مستنفرة, حين اتصلت بي "الجزيرة " طالبة تفسيري لذلك الاعتقال.
بالأمس وفي احتفال رابطة الكتاب الأردنيين بإطلاق سراح الرجلين بكفالة ,استمعنا لتفسير صاحبي الشأن: العالم الذي تصدر منابر دولية, والمثقف الأنموذج الذي يصر على أن يبقى طالب علم هادئًا "سكوت" .. لحين جرى استفزاز علمه وعقله ووجدانه بهذا الشكل . وأقل ما يمكن أن أقوله في وصف الدفق الرائع الذي سمعت المثل القائل " المياه الهادئة تجري عميقا " .. بل وعميقا جدا.
وأدهش لمن تطوع بتحريكها بما يعكس صورته نقيضا لذلك العمق الباهر, والنقاء الذي يعيد " للأردن" - النهر المقدس الذي يحمل هذا الوطن اسمه - طهره الذي أهّله "للعمّاد", قبل فيض الملوثات الآتية من جيران السوء قتلة المسيح
المفضلات