يبدو أن ما يجري في مصر اليوم هزيمة للولايات المتحدة الأميركية قبل أن يكون هزيمة لنظام حكم البلد 30 سنة استخباريا وقيميا وإستراتيجيا.
أول مظهر من مظاهر هذه الهزيمة يتجسد في أن الولايات المتحدة -كربيبتها إسرائيل- لم تتوقع أيا من هذه الأحداث ولم تستقرئ اتجاهها لا بعيد انطلاقها ولا بعيد انفجارها.
فقبيل انفجار الأحداث كانت واشنطن كإسرائيل تقول في تقاريرها الاستخبارية إن نظام الرئيس المصري محمد حسني مبارك مستقر ولا خوف عليه. ونقل عن مسؤولين أميركيين قولهما تعليقا على سقوط النظام التونسي والاحتجاجات في مصر إن رأي صناع القرار يتلخص في ضحالة وضعف التقارير الاستخبارية الأميركية.
مبارك قوي
يوم انفجار الأحداث في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني المنصرم ألقى الرئيس الأميركي باراك أوباما خطاب الاتحاد أمام الكونغرس فلم يلتفت إلى الأحداث.
والأدهى أنه في نفس اليوم أدلت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بتصريح قالت فيه إن معلوماتهم تشير إلى أن الحكومة المصرية "مستقرة" بل زادت الوزيرة لتقول فيما يشبه التسويق لحليف يغرق دون انتباه محالفه إن حكومة مبارك "تبحث عن سبل لتلبية الاحتياجات المشروعة ومصالح الشعب المصري".
المتظاهرون أصروا على إسقاط مبارك (الفرنسية)
وكأن كلينتون في تلك التصريحات لا تريد إلا أن تضع هامشا بسيطا على ما قاله رئيسها في الخطاب المشار إليه من أن واشنطن –تعليقا على أحداث تونس- "تدعم التطلعات الديمقراطية لكل الشعوب".
ولم تزد تصريحات الأميركيين في ذلك اليوم على الحث على ضبط النفس والابتعاد عن العنف، وإن كان المتحدث الصحفي باسم البيت الأبيض روبرت غيبس لم يتجاوز في حديثه تأييد حق المصريين في التجمع والتظاهر والمطالبة في الإصلاح السياسي وكأن هذه هي مطالب الشارع في مصر اليوم.
لكنه في اليوم الثاني للتظاهر وحين اصطدم عشرات الآلاف بقوات الشرطة، اكتفى –وهو على متن طائرة رئيسه- في التعليق على الأحداث بالقول إن "مصر حليف قوي" وكأنه يشير هنا إلى النظام لا إلى البلد ويتجاهل الصدام.
ولم يعلق أوباما يومئذ رغم أنه وجه رسالة اقتصادية لشعبه، بينما اكتفت كلينتون بالقول إنها تحث الحكومة على تسهيل الاحتجاج السلمي مراوغة بالقول إن من الممكن تحقيق إصلاحات سياسية هناك.
صوت لا مضمون
وفي يوم الخميس وحين اشتبك المواطنون مع الشرطة في السويس وسقط 11 قتيلا ومئات الجرحى ارتفع مستوى رد الفعل أميركيا فجاء التصريح هذه المرة على لسان جو بايدن نائب أوباما الذي أكد المعزوفة التقليدية من أن مبارك "حليف في جهود السلام بالشرق الأوسط"، وكأن ذلك هو المطلوب، رافضا أن يصفه بأنه دكتاتور، بل إنه حين سئل عما إذا كان يجب أن يتنحى مبارك أجاب بلا، وكأنه يقول إن التغيير يجب أن يكون في ظل مبارك، وهو ما يتمسك به الرجل حتى الآن.
هنا يسجل أوباما الموقف بلغة أخرى حين يقول في مقابلة على اليوتيوب إن مصر "حليف قوي لنا في كثير من القضايا الحيوية" وإنه ينصح مبارك دائما بالإصلاح، وكأن هذا الموقف منه لا يتجدد بهذه المظاهرات.
وفي الجمعة التي سماها المتظاهرون المصريون جمعة الغضب تذكر الأميركيون حماية مواطنيهم ولم ينتبهوا للموقف الأخلاقي تجاه مواطني مصر فبادروا بتحذير الأميركيين من السفر إلى مصر.
وفيما بدا تلويحا في وجه المتظاهرين قالت واشنطن إنها "ستراجع مساعداتها إلى مصر بناء على الأحداث الجارية"، وهو تصريح يستهدف المعارضة لا النظام بدليل أن النظام لم يتغير ولم يغير مواقفه، فلا وجه للتلويح في وجهه بورقة المساعدات التي لم ينتهك أي موجب لمراجعتها.
"
يمكن فهم الموقف الأميركي حقيقة في سياق واحد هو ما انتهى إليه ستيفن كوكوتلفت في مجلة فورين بوليسي بأن "مصر الديمقراطية ستكون قادرة على مقاومة إسرائيل وسياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط
"
غموض الوقت والمحتوى
هاهنا بدا لأوباما أن يرفع من نبرة صوته لا من درجة موقفه فدعا مبارك لفتح حوار وطني وتحقيق إصلاحات شاملة وإنزال الجيش لحفظ الأمن بعيد كلمة مبارك الأولى المعروفة التي بدا أوباما موافقا عليها بقوله إنه قال لمبارك "إن عليه مسؤولية إعطاء معنى لهذه الكلمات واتخاذ خطوات وأفعال ملموسة للوفاء بهذا الوعد".
وصبيحة السبت الموالي أعلن عن اجتماع لفريق الأمن القومي الأميركي لبحث الوضع في مصر وهذا إعلان معلن، فلا مانع من أن تكون هناك اجتماعات عقدت لكن مثل هذا الإعلان يقرأ في سياق إظهار البلد للاهتمام وتهيئة لإعلان موقف جديد كأن الاجتماع تمخض عنه لا المبدأ ولا الأحداث في حد ذاتها.
لكن المتحدث باسم الخارجية اكتفى حينها بالقول إنه لا يمكن لمبارك الاكتفاء بإعادة ترتيب الأوراق بعيد تعيينه لعمر سليمان.
ورغم أن التصريح مقتضب وغامض مما يشي بموقف لا يمكن أن يكون إلا لصالح مبارك فإن كلينتون في اليوم الموالي اكتفت بالقول إنها تدعو لانتقال منظم حتى لا يكون هناك فراغ وتكون هناك "خطة مدروسة لإقامة حكومة ديمقراطية"، لكن الوزيرة أجملت في الهدف كما أجملت في الخطة فلم تتحدث عمن يضعها ولا من يطبقها ولا موقف النظام والمعارضة تجاهها.
هذه الرسالة حملها السفير الأميركي السابق في القاهرة فرانك ويزنر الذي انتدبه أوباما مبعوثا لمبارك ليخبره في حديث خاص بضرورة الإعداد "لانتقال منظم للسلطة".
وكانت الرسالة التي أصر عليها الناطقون الأميركيون يومها ولاحقا تشير إلى انتقالهم من خانة الوقوف الكلي مع مبارك للقول إنهم لا يفاضلون بينه وبين الشارع، حسب تصريحات غيبس.
وإمعانا في سياسة الغموض والمواقف التي اتبعتها الإدارة الأميركية فقد كان على أوباما في اليوم الثامن للاحتجاجات وبعيد كلمة مبارك الأخيرة إثر مسيرات مليونية في أنحاء مصر أن "الانتقال المنظم يجب أن يكون له معنى وسلميا ويجب أن يبدأ الآن".
لكن هذه "الآن" تظل غامضة في التاريخ وفي المحتوى فرغم أن غيبس قال لاحقا في اليوم الموالي إن المقصود هو أمس وليس سبتمبر/أيلول -في إشارة لنهاية فترة مبارك- فقد ظل الوقت غامضا لأن مبارك يفسره بأن الانتقال بدأ والمعارضة تصر على ارتحاله.
ولأن المحتوى لم يحدد لأنهم لم يتحدثوا عن كيفية، فإن هذا يعني أنهم كمبارك يحاولون كسب الوقت حتى لو كان ذلك على حساب البلد وأرواح مواطنيه التي استشرى فيها العنف قتلا أمس واليوم دون أن يكون الموقف الأميركي تجاه ذلك أكثر من رفض العنف ضد الاحتجاجات.
وصباح هذا اليوم الذي كان بعد ليلة أشاع فيها أنصار مبارك العنف والخوف في أنحاء الجمهورية اكتفت الولايات المتحدة مجددا بروح الأنانية طالبة من مواطنيها المغادرة وساحبة مبعوثها لمبارك دون أن تسجل موقفا واضحا إمعانا في سياسة غموض تنطلق من متابعة الحدث لا صناعته.
وذلك ما تنتهي إليه الباحثة في معهد أمريكان أنتربرايز، دانييلا بليتكا حين تقول إن واشنطن كانت "في موقف رد الفعل بطريقة لا تصدق.. لا تشعر بأن الإدارة لديها رؤية للنتيجة التي تعمل من أجلها".
السلوك السياسي الأميركي تجاه الأزمة لم يفت على المعارضين المصريين، فقد اعتبروا –حسب البرادعي- أن تصريحات الأميركيين تجاه الأحداث في مصر "تشير الى التضامن مع مبارك"، وأن الإدارة الأميركية بذلك "تجازف بأن تظهر كمن يقوم بالاختيار التاريخي الخاطئ".
يمكن فهم الموقف الأميركي حقيقة في سياق واحد هو ما انتهى إليه ستيفن كوكوتلفت في مجلة فورين بوليسي بأن "مصر الديمقراطية ستكون قادرة على مقاومة إسرائيل وسياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط".
المصدر: الجزيرة
المفضلات